سميرة همامي هي المعيلة الوحيدة لأسرة بسبعة أفراد في مدينة الوسلاتية بولاية القيروان، الواقعة على بعد ساعة غرب مدينة القيروان. منذ ترملها، قبل حوالي عقدين من الزمن، ما فتئت سميرة تعيل نفسها وأطفالها الثلاثة وشقيقها ذي الاحتياجات الخاصة ووالدي زوجها. وتقوم بذلك بجمع القوارير البلاستيكية وبيعها بغرض رسكلتها. وبما أنها في تنافس مع عديد من جيرانها الذين يكسبون عيشهم بنفس الطريقة، فعليها أن تستيقظ على الساعة الثالثة صباحًا للانطلاق في العمل.
في شهر فيفري، جمع لقاء بين فريق مشكال وسميرة بمنزل أهل زوجها غير مكتمل البناء، حيث يعيش جميعهم. وقالت سميرة خلال هذه المقابلة أنها تواجه صعوبات جمة في سداد معظم فواتيرها، بما في ذلك فاتورتي الكهرباء والماء. وقد اضطرت لشراء اللوازم المدرسية لابنتها بالتداين من المتجر المحلي. من المفترض أن يغطي التأمين الصحي العام لسميرة جميع الفواتير الطبية لها ولأطفالها (من خلال الدفتر الأبيض أو “الكرني” الأبيض)، ولكن نفاد الإمدادات في المستشفى منع ابنتها من الحصول على الدواء، إثر تنقلهم إلى غرفة الطوارئ بسبب أزمة صحية. لم تقدر سميرة على تحمل تكاليف الوصفة الطبية من صيدلية خاصة، تاركة ابنتها دون الدواء الذي تحتاجه. وغالبًا ما تكون أدوية مرضي السكري وضغط الدم –التي تعاني منهما سميرة– غير متوفرة في المرافق الصحية العمومية، وتضطر أحيانا أن تدفع من مالها الخاص مقابل السائل الوريدي في المستشفى.
إن الفقر الذي تعاني منه سميرة يجعلها مؤهلة للحصول على دعم من عديد البرامج العمومية في شبكة الضمان الاجتماعي للدولة. وفي إطار تدخلات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الخاصة بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، تم تحويل الأموال الخاصة بالرعاية الاجتماعية في تونس من البرامج الشاملة إلى البرامج التي تستهدف ظاهريا أكثر الفئات فقرا، مثل سميرة همامي. وأوضحت هذه الأخيرة أنها لم تنل نصيبها من تلك البرامج “الموجهة” لأنها تفتقر للعلاقات الاجتماعية المناسبة.
“حتى الإعانات، تعرفي شكون: تاخذي، ما تعرفي حد: والله تموتي فم” تقول سميرة، في إشارة إلى المسؤولين المحليين “وش خص كان حد يتلفتلنا حتى شوي، رانا معادش عباد أصل”.
وقد قام فريق مشكال سابقا بتوثيق التحويلات النقدية المباشرة إلى المحتاجين خلال أزمة جائحة كورونا، حيث كانت تخضع لتقدير المسؤولين المحليين، وتتبع معايير أهلية تعطي أفضلية لأرباب العائلات من الذكور. كما أفادت سميرة حول مساعدات الدولة قائلة “يعطو الإعانات بالمعارف، ووما يسمع بيهم حد.”
برامج “التحويل النقدي الموجه” الموجودة
يندرج البرنامج الرئيسي للتحويلات النقدية في تونس في إطار البرنامج الوطني لإعانة العائلات المعوزة. ويرد في برنامج قروض البنك الدولي في جوان 2020 أن البرنامج الوطني لإعانة العائلات المعوزة يغطي حوالي 9 في المائة من السكان، ويمنح 180 دينارًا شهريًا للأسر و10 دنانير إضافية لكل طفل، إلى حد ثلاثة أطفال على الأقصى. ومع ذلك، لم يتم تقديم أية منهجية في وثيقة القرض الخاصة بالبنك الدولي لتوضيح أنجع طرق الاستهداف للوصول إلى المحتاجين. بدلاً من ذلك، يشدد برنامج البنك الدولي على أن الاستهداف الحالي قد يكون بالفعل سخيا أكثر من اللازم، في إشارة إلى خطر استنفاع بعض الأشخاص بأكثر من برنامج مساعدة واحد من البرامج التي توفرها الدولة، أو ما يسمى “الانتفاع المزدوج” (في الصفحة 23).
وحسب قرض البنك الدولي لعام 2020، “يحتوي برنامج التحويل النقدي الحالي على آلية استهداف في غاية التعقيد، ويفتقر للمعلومات المتعلقة بأنواع فئات الأسر المحتاجة، بما في ذلك عمال القطاع غير الرسمي”. ويدعو البنك الدولي بدلاً من ذلك إلى التحول إلى آلية استهداف تدعى “الاختبار بالوسائل غير المباشرة لقياس مستوى الدخل”. ويتم التأكيد بالوثيقة على أنه “من هنا فصاعداً، تلتزم الحكومة [التونسية] باستخدام طريقة استهداف جديدة (أي الاختبار بالوسائل غير المباشرة لقياس مستوى الدخل)” (صفحة 26).
ولكن، وفقًا للباحثين الاقتصاديين شفيق بن روين وجيهان شندول، فإن هناك “قصورا في تحديد الأسر الأكثر فقرًا” عند الاستعانة بطريقة الاختبار بالوسائل غير المباشرة لقياس مستوى الدخل.
أشار بن روين وشندول في دراسة نشرتها مؤسسة فريدريش إيبرت مؤخرًا إلى أن استخدام الاختبار بالوسائل غير المباشرة لقياس مستوى الدخل “مكلف” و “شاق” من حيث القدرة الإدارية. ويكتبان:
“هناك العديد من مواطن القصور في استهداف الفئات ‘ الأكثرفقراً ‘ عند الاستعانة باختبار الوسائل غير المباشرة لقياس مستوى الدخل، والذي يواجه صعوبات فيما يتعلق بالدمج والإقصاء بسبب عدم التناسق المهول في المعلومات، الناتج عن شحة البيانات المصنفة وعدم انتظام الدراسات الاستقصائية الأسرية لمراقبة الوضع – في تونس كما في البلدان النامية الأخرى ذات اقتصاد غير رسمي كبير “.
وقد دعمت هذا الاكتشاف دراسة حديثة أخرى نشرتها “مسارات التنمية”، والتي ذُكر فيها أنه:
“غالبًا ما تشوب البرامج التي تستهدف الفقر العديد من العيوب التي تتسبب بإقصاء كبير، انطلاقا من فرضية أن ‘الفقراء’ مجموعة ثابتة يمكن تحديدها بدقة”، وذُكر كذلك أنه في ظل البرنامج الوطني لإعانة العائلات المعوزة بتونس، فإن “نسبة 83٪ من أولئك الذين يقبعون في الـ 20٪ الدنيا ممن يفترض تحصلهم على إعانات الرعاية الاجتماعية تم إقصاؤهم على وجه الخطأ”.
وبغض النظر عن ذلك، فإن سميرة تفضل الحصول على وظيفة لائقة عوض المساعدات النقدية المباشرة.
” قابلتهم الكل برشا مرات، رئيس البلدية قتله نحيهالي المنحة، وخدمني نايا ولا ولدي… ستنيت ستنيت، ما فم شي… منحة متع 200 دينار بش توكل سبعة مالناس هي؟”
يبلغ الحد الأدنى للأجور حوالي 400 دينار شهريًا للعاملين بدوام كامل – وهذا المبلغ منخفض للغاية، ويعجز عن مواكبة التضخم المتزايد في السنوات الأخيرة.
إطعام الناس مسألة تدريجية
ما هو أفضل بديل للتحويلات النقدية الموجهة، والتي تعجز عن الوصول إلى أشد الناس فقرا؟ توصّل بن روين وشندول في دراستهما إلى أن البرامج الشاملة – مثل دعم الأسعار لسلع استهلاكية معينة – هي في الواقع أكثر تدرجًا وأكثر نجاعة في الحد من الفقر، وأكثر إنصافًا من التحويلات النقدية الموجهة في تونس. وأشارا إلى أن هذا ينطبق بشكل خاص على مستوى دعم المواد الغذائية، ولكنه ينطبق أيضًا على دعم الطاقة، بالإضافة إلى البرامج الشاملة الأخرى مثل التعليم والصحة.
كتب بن روين وشاندول، نقلا عن دراسة أجرتها مؤسستان حكوميتان تونسيتان وبنك التنمية الأفريقي سنة 2013، أن “دعم المواد الغذائية يعود بالفائدة على الفئات الأفقر أكثر من الفئات الأغنى… وتنخفض الفائدة نسبيا كلما زاد المنتفعون ثراء”. وأشارا إلى أن هذه الدراسة قد تم تحريفها بشكل ممنهج من قبل وسائل الإعلام والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لابراز نتائج معاكسة تماما للنتائج الفعلية للدراسة. وذلك لأن كتابات ومواقف وسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ركزت على الفوائد المطلقة لتلك الإعانات، بدلاً من الفوائد النسبية. والدراسة نفسها واضحة بما فيه الكفاية بهذا الصدد في الصفحة 15: “نظام دعم المواد الغذائية في تونس هو نظام تدريجي من منظور نسبي”.
ومع ذلك، فإن هذا النظام لإعادة التوزيع يتم إلغاؤه تدريجياً، حيث يقوم مسؤولون تونسيون بتقديم وعود لصندوق النقد الدولي بخفض الدعم، بغاية الحصول على قرض جديد بقيمة 4 مليارات دولار، والذي تحتاجه الدولة لسداد الدائنين الآخرين. بينما تواجه تونس صعوبات في شراء القمح من السوق الدولية بسبب الضائقة الائتمانية في وقت تشهد فيه الأسعار ارتفاعًا حادًا، بالإضافة إلى نقص في الإمدادات. ويعود ذلك جزئيا إلى الحرب الروسية الأوكرانية، فهذه المواد الغذائية المدعومة نادرة بالفعل في العديد من المخابز والمغازات العامة. تدعم وزارة التجارة حاليا أسعار الحبوب وزيت الطهي والحليب والسكر والمقرونة والكسكسي، لكنها خفضت بالفعل من الدعم للعديد من هذه المواد، أو لم تزود السوق بكميات كافية تمكن الناس من العثور عليها في الأسواق. في صيف 2021، خفض المسؤولون الدعم عن السكر، وقد ادعى كثيرون أن ذلك قد حصل لإقناع صندوق النقد الدولي بجدية الحكومة التونسية إزاء تنفيذ إجراءات التقشف للإصلاح.
دعم المواد الغذائية أمر تدريجي ويتصدى لعدم المساواة، والتخفيض من الدعم يؤثر سلبا على أكثر التونسيين فقرا.
قالت امرأة في بطحاء السوق بالقيروان: “يلزمك البائع في محل البقالة بشراء منتجات بقيمة خمسة دنانير كي يوافق على بيعك زجاجة من زيت الطهي، تكلفتها العادية 900 مليم [0.9 دينار]”، في إشارة إلى ندرة الزيت المدعوم.
في مخبز في الوسلاتية في فيفري الماضي، شاهد فريق مشكال الناس يصطفون للحصول على خبز بالدقيق المدعوم خلال الفترة الوجيزة التي افتتح فيها المخبز لبيع مخزونه المحدود.
ولاحظ فريق مشكال أن معظم المخابز في القيروان تغلق أبوابها بحلول الظهيرة بسبب نقص الإمدادات. اشتكت العديد من الزبونات المنتظرات في مخبز الوسلاتية إلى فريق مشكال من غياب الرقابة الحكومية على أسعار المواد الغذائية، قائلات أن كل محل يحدد أسعار الإمدادات الغذائية الأساسية بنفسه.
وقالت منيرة، والتي اختارت التكتم عن لقبها العائلي “كان نطيب فطور ما نطيبش عشا”. وزعمت أن النفاذ لمخزونات المواد الغذائية الأساسية حكر على أولئك الذين يتمتعون بعلاقات اجتماعية خاصة.
قال صاحب مخبز في القيروان لفريق مشكال أن المشاهد التي يراها مؤخرًا لأشخاص يائسين يسعون للحصول على القليل من خبزهم هي مشاهد مثيرة للقلق.
” جاء النهار إلي القراوى فيه جوعى، عمرها ما صارت هاذي” قال صاحب المخبز، دون ذكر اسمه.
قال بائع دجاج في السوق إنه لاحظ علامات البؤس المتزايد على زبائنه.
كان هناك امرأتان بالمحل هذا الصباح، لم تقدر أيهما على توفير ثمن دجاجة، فاتفقتا على شراء دجاجة واحدة معًا وتقاسمها. لم يعد الناس قادرين على العيش بمفردهم”، قال صاحب المحل، دون ذكر اسمه.
الرعاية الصحية والتعليم كإعانات شاملة
هناك مجالان آخران يتم تمزيق شبكة الضمان الاجتماعي فيهما، وهما التعليم والرعاية الصحية. وفقًا لبن روين وشندول، “عادةً ما تؤثر برامج صندوق النقد الدولي بشكل غير مباشر على كلي هذين القطاعين، فعملية الضبط المالي وتخفيض قيمة العملة المحلية ومدفوعات خدمة الديون تتسبب جميعها في انخفاض الإنفاق العام على الرعاية الصحية والتعليم”.
ويضيفان: “لم تذكر برامج صندوق النقد الدولي في تونس قبل الجائحة الإنفاق على التعليم أو الرعاية الصحية”.
غالبًا ما يعني ذلك أن الفئات الأكثر فقرًا هم الأكثر تضررًا. آمنة شريف هي مديرة مستشفى حي التضامن، والذي يستقبل في الغالب مرضى من الطبقة العاملة في أحياء التضامن ودوار هيشر المجاورة. قالت آمنة أن المستشفى يفتقر إلى الكثير من الموارد التي يحتاجها، على الرغم من مسؤولية تغطية الاحتياجات الصحية لنحو 400 ألف ساكن.
وخلال مقابلة معها بمكتبها في شهر مارس، قالت آمنة لفريق مشكال “كيما أي مستشفى في تونس، فما نقص في الأدوية… نقص كبير في الأدوية. أولا، هوما مش موجودين في الصيدلية المركزية. كيف نعدي طلب في 80 دواء مثلا، يعطيوني 20 دواءً برك. 60 ما فماش. صفر، صفر، صفر: العام كامل هكاكا”.
قالت آمنة “الميزانية ناقصة، مش ماهيش ناقصة، أما حتى إنتي كان جاء الدواء موجود، أنا نجم نتجاوز الميزانية على خاطر المواطنين، ميسالش. نتجاوز الميزانية ونشري… أما هو الدواء مش موجود”.
المشكلة الأخرى التي لاحظتها آمنة هي أن “العديد” من الأشخاص الذين كان بحوزتهم الدفتر (الكرني) الأبيض (الذي يمتعهم بتغطية مجانية) أو الدفتر (الكرني) الأصفر (والذي يمتعهم بتغطية مخفضة)، والتي تحصلوا عليها من برنامج الدولة للتأمين على أصحاب الأعمال “الكنام” (الصندوق الوطني للتأمين على المرض)، لاحظت أن العديد منهم فقدوا هذه الدفاتر بعد تسريح العديد من العمال خلال أزمة جائحة كورونا.
بالنسبة لأولئك الذين لديهم تأمين “كنام”، فإن صندوق التأمين الحكومي يواجه العديد من الصعوبات المالية، حيث تحدث تأخيرات طويلة في السداد. وأوضحت خديجة، أستاذة جامعية في ولاية المنستير، لفريق مشكال أنه كان يتم تعويض مدفوعات والديها من الصندوق الوطني للتأمين على المرض للأدوية الموصوفة للأمراض المزمنة في غضون أربعة أسابيع. لكنهم في فيفري الماضي قضوا أربعة أشهر دون سداد مدفوعات من الصندوق. وقالت إنهم تفاوضوا أيضًا لشهور بشأن سداد تكاليف عملية استبدال الركبة، حيث يعرض الصندوق مبلغا يقل بكثير عن التكلفة الكاملة للعملية في كل مرة. كما اشتكى العديد من الأشخاص الآخرين من مثل هذه التأخيرات على مجموعة بموقع التواصل الإجتماعي “فايسبوك”، مخصصة للاستفسارات حول برامج الضمان الاجتماعي مثل الصندوق الوطني للتأمين على المرض.
قالت آمنة أن برنامج “الصحة عزيزة” للاتحاد الأوروبي قد ساعدها إلى حد ما على مشكلة موارد المستشفى، حيث تم منح تونس أول سيارات إسعاف مجهزة بوحدة عناية مركزة، واحدة منها في مستشفى آمنة. ولكن الاتحاد الأوروبي إشترط مقابل مساعدته لتونس تجميد التوظيف في القطاع العمومي، وقد يكون هذا هو السبب في عدم تمكن آمنة من توظيف سائقين لقيادة سيارات الإسعاف الثلاث التي تبرع بها الاتحاد الأوروبي. قد يفسر ذلك أيضًا سبب وجود طبيبة قلب واحدة فقط في مستشفى آمنة الذي يقدم خدمات طبية لـ 400.000 ساكن، دون إمكانية توظيف المزيد.
قالت آمنة “المشكل هو نقص الاختصاص… بش ياخذ موعد باش يعمل إقامة في أي اختصاص في أي مستشفى عام، يحبلو ستة شهر… تنجم تتعكر حالتو ويصيرلو برشا مضاعفات حتى يجي الموعد متاعو… مثلا عندي طبيبة قلب وحدة بركا. مسكينة هي بيدها خرجت تعمل في عملية على راسها. معناها قعدت توا أكثر من ستة شهر وهي مريضة. المواطنون تاعبين”.
وفي ذات الوقت، فإن الأطباء المتخصصين الذين يواجهون تجميد التوظيف في القطاع العام، ويعانون من ظروف عمل سيئة وتدهور القوة الشرائية بسبب التضخم، يهاجرون إلى ألمانيا وفرنسا للعثور على وظائف أفضل، وهو ما يسميه الكثيرون بـ “هجرة الأدمغة”.
تم تحرير هذه المقالة كجزء من شراكة في إعداد التقارير بين مشكال ومؤسسةفريدريش ايبرت. دعم هذه المقالة يعتمد كذلك على القراء مثلك، عبر موقع “بايتريون”: https://www.patreon.com/meshkal. إذا كنت من قراء تقارير موقع مشكال، يمكنك التبرع للمساهمة في استمرار المشروع.