في العرض الثاني للفيلم الوثائقي القصير “ديبورتاتو”، ضمن “مهرجان السينما الاجتماعية” الذي عقد في تونس العاصمة في شهر ماي الماضي ، لم يستطع اثنان من الشخصيات الخمسة التي يدور حولها الفيلم مشاهدته إذ لم يكن بمقدورهم تحمل كلفة القدوم من صفاقس التي تبعد حوالي 300 كيلومتر.
الوضع الاجتماعي والاقتصادي لهذه الشخصيات هو المحور الرئيسي للفيلم الوثائقي الذي يروي قصة احتجاز وترحيل خمسة شباب تونسيين هاجروا إلى إيطاليا عن طريق البحر في السنوات الأخيرة في ظروف خطيرة وبدون تأشيرة. ورغم أنهم لم يلتقوا سابقا، الا أن ما يربطهم، الى جانب هجرتهم وترحيلهم، هو ما يواجهونه من عدم استقرار في فرص العمل. فهم عاطلون عن العمل أو يعملون بدوام جزئي بأقل من 12 دينار في اليوم (حوالي 4 دولارات).
“لماذا تعتقد أني ذهبت إلى إيطاليا؟ للعب كرة القدم في نادي ميلانو؟ لشراء حذاء رياضي ؟ ” يواصل إسماعيل خليفي تهكمه على ظروفه ” نذهب إلى هناك لنعمل، ونجمع بعض المال، ونتزوج ثم نعود”.وبينما يواجه خليفي محنته بالسخرية، لا يزال البعض الآخر يعاني من كوابيس.
أمين صلاح وهو أحد شخصيات الفيلم الخمسة ممن سافروا إلى إيطاليا في ظروف خطيرة، و تعرضوا للاحتجاز والترحيل يقول “كنت أنام و أحلم أنني ما زلت أعبر البحر. أحلم ذات الحلم كل يوم”،
وفقا للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فقد 2275 شخصا حياتهم، أو فقدوا، أثناء رحلتهم لعبور البحر الأبيض المتوسط في عام 2018. بينما كان عام 2016 الأسوأ حيث لقي اكثر من 5000 شخص حتفهم خلال محاولتهم الوصول الى الجهة الاخرى من المتوسط.
يدفع المهاجرون مبالغ باهظة للمهربين الذين يديرون القوارب التي تغادر ليلاً من شواطىء شمال أفريقيا وأماكن مثل مدينة جرجيس إلى الجزر الإيطالية مثل لامبيدوزا وبانتيليريا. تصف شخصيات فيلم “ديبورتاتو” تكديسهم في قوارب صغيرة مع قرابة 120 شخصا اخرين، مما يزيد من خطر انقلاب القارب. اعتقلت السلطات الإيطالية الصيادين التونسيين الذين ينقذون المهاجرين الذين تقطعت بهم السبل في البحر ويوصلونهم إلى الشواطئ الإيطالية.
بالنسبة لمخرج “ديبورتاتو” حمادي الأسود، فإن نقل تجارب ورسالة شخصيات فيلمه إلى المشاهدين هو تعبير عن وجهة نظره السياسية، حيث يقول الأسود لمشكال “أنا أدافع عن حق الناس في الذهاب إلى الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط. للذهاب حيث يحلو لهم، لقد ولدوا احرارا، ويجب أن يتحركوا و يعيشوا احرارا حتى يموتوا، لكن الناس تعيش تجربة تبدأ بجمع الأموال وبيع كل شيء من أجل هذه الرحلة ، و الذهاب الى مكان ما ، ثم يجدون أنفسهم في نفس المكان الذي رحلوا منه، وقد فقدوا كل شيء. وهذا يعني انه علينا اليوم أن نراجع علاقتنا بأكملها مع الذين “يحرقون” . الفعل يحرق، يعني بالدارجة التونسية السفر إلى أوروبا بطريقة غير شرعية.
ولكن ما هو تأثير الفيلم الوثائقي على الواقع السياسي؟ بالنسبة لحمادي الأسود الذي دعم إنتاج فيلمه “ديبورتاتو” كل من المنصة الجماعية المستقلة “نواة” والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإنه يشك في أن يكون لفيلمه تأثير كبير. حيث يوضح :”لا أتصور أن الفيلم سيغير الواقع، فالسلطات في تونس لا تستمع إلى الناس، كما أنهم يحكمون كما يريدون”.
يقول الأسود أن الشيء ذاته ينطبق على الأفلام الوثائقية التي تتناول قضايا أكثر أهمية،مثل الفقر والحرب في المنطقة، والتي لم تسفر عن أي تغيير سياسي. بل إن طموحات الأسود أكثر تواضعا حول ما يمكن أن يحققه فيلمه. “دور الفيلم الوثائقي هو الحديث عن قضية لم يتم التطرق لها سابقا وربما فتح باب النقاش حولها”.
في نفس اليوم من المهرجان عرض الفيلم الوثائقي “الحال زين يا للا ؟” من إخراج رباب مباركي. يوثق فيلم مباركي الدمار البيئي الناجم عن الانشطة الصناعية في ولاية قابس وتأثيره على صحة وسبل معيشة سكانها، تتشارك مباركي مع حمدي الأسود بوجهة نظره حول محدودية قدرة الافلام على تغيير الواقع الاجتماعي والسياسي، وتقول لمشكال :”إذا تحدثت إليك كفنانة، يمكن أن يؤثر الفيلم، لكن إذا تحدثت إليك كشخص من قابس، بكثير من المنطق والواقعية. فيمكن أن يغير قليلا، أنا وحدي لا أستطيع فعل أي شيء، وفيلمي وحده لا يمكنه فعل أي شيء”.
في حين أن المخرجين مباركي والأسود يتحفظان على قدرة أفلامهم على التغيير، يرى آخرون الفيلم الوثائقي كوسيلة يمكن أن يكون لها تأثير حقيقي، حيث أن هشام بن خمسة، مدير التواصل لمهرجان قرطاج السينمائي يعتبر أن هذه الأفلام تدفع جهود التغيير إلى الأمام مضيفاً :”يمكنك رؤية الدافع وراء أفلامهم وهو الإحباط بسبب غياب العدالة على الصعيد المحلي، ومحصلة جهود هذه الأفلام هو دفع الحدود إلى الأمام نحو هدف التغيير”.
مكتب روزا لوكسمبورغ ستفتنغ في شمال أفريقيا المنظم للمهرجان في دورته الأولى يرى فيه منصة أخرى للوصول إلى أشخاص قد يمتلكون القدرة على التأثير بالحياة السياسية والاجتماعية، حيث يرى أحد المنظمين الرئيسيين للمهرجان من مكتب روزا لوكسمبرغ أنه “ليس لدينا منبر مشترك أو منصة جماعية لدعوة السياسيين وصناع القرار لنقاش مفتوح حول المشكلات المطروحة”.
حندوس الذي كان جزءا من اللجنة القائمة على عملية اختيار الأفلام المشاركة بالمهرجان، يوضّح أن الأفلام المختارة جميعها تحمل نوعاً من التنديد بعلّة اجتماعية تونسية، سواء كانت في قطاع العمل أو التهميش أو تحديات عملية الانتقال السياسي، فميزة الفيلم الوثائقي هو قدرته على التغيير سياسياً واجتماعياً عبر جذب جمهور أوسع لنقاش هذه القضايا، مشدداً :”نحن لا ندرك قوة الأفلام الوثائقية وتأثير الأفلام الاجتماعية الوثائقية”.
مساحة التعبير عبر الأفلام زادت منذ انتفاضة 2011، وفي سابقة على المستوى التونسي تقوم الحكومة بتمويل الأفلام التي تركز على القضايا الاجتماعية الشائكة، حيث يعطي فيلمي “صمت القصر” و”حلفاوين” على الاهتمام الرسمي المستحدث، رغم أن السينما التونسية السائدة تركز غالباً على المجال الخاص في الحياة والأسرة بدلا من المجال العام. وقال بن خمسة، لمشكال :” سبب نجاح السينما التونسية هو أنها متأصلة في المجتمع. لقد كانت سينما اجتماعية للغاية. وترى هذا أيضا في الفيلم الوثائقي”.
أما نرجس طرشاني، إحدى العاملات على تنظيم المهرجان، فتقول أن الليلة الافتتاحية للمهرجان شهدت حضورراً كثيفاً حيث امتلأت صالة سينما مدار لمشاهدة فيلم “جيل مانيش مسامح”، في حين شهدت كل ليلة تالية حضور 70 شخص. وبالنسبة لها، كان المهرجان ناجحا في منح منصة للأفلام الوثائقية، خصوصا وان الأفلام الوثائقية غالبا ما تواجه تحديات في النجاح التجاري. ومع ذلك، فهي ترى أيضا الحاجة إلى جذب جماهير أوسع للمواضيع الاجتماعية من خلال المزيد من الاهتمام بإنتاج أفلام ذات جودة عالية فنياً.
وتضيف طرشاني “لقد لاحظت شخصيا ان الناس قدموا لان الفيلم يتحدث عن منطقتهم أو موضوع مهتمين فيه بشدة، لذا ربما يجب علينا العمل أكثر على الجانب التصويري في إنتاج الأفلام، فالوصول إلى توازن بين الشكل والمحتوى يمكن أن يكون طريقة لجيل تونس الجديد من مخرجي الأفلام الوثائقية للوصول إلى جمهور أوسع”.
هذا المقال هو الجزء الثالث من سلسلة تتحدث عن المواضيع التي أثيرت في الأفلام الوثائقية التي تم عرضها في مهرجان “السينما الاجتماعية” في تونس في الفترة من 22 ماي إلى 26 ماي 2019.
ساهم في ترجمة وتحرير المقال باللغة العربية: أحمد أبو حمد