عند إغلاقهم للطريق الوطنية رقم ثلاثة لساعات عديدة في العاشر من شهر أوت، أبت السلطات المحلية إلا أن تتجاهل أبناء منطقة أولاد نصر، القرية الكائنة في ولاية القيروان. على مواقع التواصل الاجتماعي،وجّه لهم بعض مستعملي الطريق الرابط بين القيروان وقفصة اتهامات بالسرقة والسطو. توجه أعوان الحرس الوطني في النهاية صوب المحتجين وطلبوا منهم تفويض ممثلين عنهم للحديث مباشرة مع المسؤولين.
التقى ثلاثة من المحتجين، لاحقا في نفس اليوم، مع كل من معتمد ’’الشبيكة‘‘ ( المعتمدية تمثل الوحدة الإدارية المحلية المفوضة من السلطة المركزية، والتي تنتمي إليها قرية أولاد نصر) ورئيس بلدية ’’عبيدة‘‘ [ بلدية حديثة الإنشاء تتبعها قرية أولاد نصر] وممثل عن الشركة الوطنية لتوزيع المياه (SONEDE) فضلا عن ممثل للشركة الوطنية للكهرباء المملوكة للدولة (STEG).
وفقا لمحمد الشريف الجلاصي، أحد المحتجين الذي تحدث لمشكال، انبثق عن هذا الاجتماع المنعقد في مقر معتمدية الشبيكة وعدٌ، تمثل في التزام كل من شركة الكهرباء بتزويد العين البيضاء (وهي بئر عميقة مجاورة للقرية) بالكهرباء وشركة توزيع المياه بتمتيع حوالي 180 عائلة في القرية بمياه البئر العذبة حتى يتمكنوا من استهلاك وتسديد فواتيرهم على غرار أي مواطن آخر في المناطق الحضرية.
ولكن أوضح أبناء القرية أنهم سئموا هذه الوعود، إذ تعود مطالبتهم بحقهم في المياه العذبة النظيفة لسنوات مضت سبقت حتى ترسيخ هذا الحق الإنساني في الفصل 44 من دستور 2014.
’’ نحن لا نطلب الكثير… نحن نريد الحد الأدنى‘‘ أعرب الجلاصي، وهو خريج علوم تمريض عاطل عن العمل، مضيفا أن مشكل المياه هو مصدر كل المتاعب التي تواجههم.
تفتقر المدرسة الابتدائية في القرية لشبكة مياه تسمح باستعمال دورات المياه وغسل اليدين، وهو ما دفع بالتلاميذ لجلب قوارير ماء معهم. يرى الجلاصي أن هذا يمثل أحد أهم أسباب تردي الوضع الصحي للأطفال ومغادرتهم المبكرة لمقاعد الدراسة.
أضاف الجلاصي’’ حين ألتقي بالمدرس، يعبر لي عن استعداده للسفر يوميا مسافة 150 كيلومتر للوصول للمدرسة ويفتخر بتلاميذه الأذكياء واللطفاء. ولكن المشكل الوحيد الذي يعترضه هو نقص المياه النظيفة.‘‘
للفقر ولانعدام الخدمات الأساسية تأثير سلبي يلقي بضلاله على الصحة الذهنية كذلك. لا تمثل مدرسة أولاد نصر استثناءً في الولاية التي تعاني من أعلى نسب انتحار على المستوى الوطني لدى القصّر والبالغين. إذ بيّن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن تونس سجلت وطنيا 268 حالة انتحار أو محاولة انتحار سنة 2019، 48 منها وقعت في ولاية القيروان.
وفقا لنفس المنظمة غير الحكومية، تفتقر 175 مدرسة ابتدائية في ولاية القيروان للمياه الصالحة للشرب. سعيا للحصول على الماء، تعوِّل العديد من المدارس على خزانات لا تستوفي المعايير الصحية الدنيا. علاوة على ذلك، يتم توزيع المياه من قبل مجامع التنمية الفلاحية (GDA) وهي جمعيات غير حكومية محلية تتولى مسؤولية توزيع المياه وتسعيره، وذلك حسب تقرير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية حول العدالة البيئية الصادر في أكتوبر 2019.
أشارت موظفة المنتدى في القيروان منيارة المجبري في ذات التقرير إلى علاقة الارتباط القائمة بين حالات تفشي التهاب الكبد الفيروسي الشائعة في مدارس المنطقة الريفية وتردي جودة المياه ونقص المرافق الصحية.
الآن، مع اقتراب العودة المدرسية، عبرت المجبري عن مخاوفها من الخطر المحدق بمدارس القيروان والمتمثل في مرض كوفيد 19.
وصرحت لمشكال قائلةً ’’فيروس آخر سيُخرج الوضع عن السيطرة. إن تواصل انتشار مرض كوفيد 19 إلى حدود منتصف سبتمبر، سيكون تلاميذ المدارس والمعلمون أولى ضحاياه.‘‘
كوفيد 19 ودوره في تعميق أوجه اللامساواة
قامت المجبري خلال فترة الحجر الشامل الممتدة على شهرين بزيارات ميدانية لرصد أثر انتشار الفيروس على التجمعات الريفية التي، على حد قولها، ’’تعاني في الأصل من قدر كبير من الظلم مقارنة بالتجمعات الحضرية.‘‘
’’بينما تعود المرأة في المحيط الحضري إلى منزلها بعد انتهاء العمل لتفتح حنفية مطبخها، تجد المرأة الريفية نفسها مجبرةً على السير لعدة كيلومترات للحصول على وعاءين من المياه للشرب والاغتسال ومجابهة كوفيد 19 وفيروسات أخرى.‘‘
في نفس الإطار، أشارت المجبري إلى معاناة المرأة الريفية من ظروف معيشية هشة. كثيرات هن من يعملن كعاملات موسميات في الفلاحة ويواجهن ظروف عمل خطرة وما المعدلات العالية لحوادث طريق قاتلة خلال التنقل ومستويات الأجور المتدنية جدا إلا بعض مؤشرات على هذه الظروف الصعبة.
في قرية أولاد نصر على سبيل المثال، يتعين على القرويين السير لكيلومترين لشراء الماء من أقرب مجمع تنمية فلاحية. يتميز هذا الماء وفقا للمجبري بالملوحة، مما يدفعهم لشراء أوعية بلاستيكية بسعة 20 لترا من باعة المياه.
يعتبر نضال عطية، منسق برامج حوكمة البيئة والموارد الطبيعية في منظمة هنريش بول – تونس أن ملوحة المائدة المائية القريبة من السواحل واحدة من التبعات المترتبة عن الانحباس الحراري، مبرزا لمشكال أن ’’ 50% من المياه الجوفية القريبة من السواحل ستصبح مالحة بحلول 2030 بسبب ارتفاع مستوى البحر‘‘.
تزود الشركة الوطنية لتوزيع المياه المناطق الحضرية أساسا، فيما تعتمد المناطق الريفية النائية منذ 1999 على مجامع التنمية الفلاحية للحصول على المياه.
وقع سنة 1999 إنشاء مجامع التنمية الفلاحية لربط وتزويد المزارعين في نطاق منطقة ري محددة.
من الناحية النظرية، يقع انتخاب القائمين على الإدارة بشكل شفاف ويتم ضبط عملية أخذ القرار بطرق ديمقراطية. وتوكل للأشخاص المنتخبين مسؤولية المحافظة على منظومة تزويد المياه.
ولكن الواقع مخالف لذلك، وهو ما تم إبرازه خلال حلقة نقاش عن بعد عقدت يوم الثالث عشر من جوان برعاية من المرصد التونسي للاقتصاد والمرصد التونسي للمياه الذي تشرف عليه منظمة نوماد 08، إذ تحيط بتجربة مجامع التنمية الفلاحية الممتدة لعقدين من الزمن نقاط ضعف متعددة كالنزاعات المتواترة بين المسيرين ، وسرقة المياه من قبل بعض المستفيدين عبر تحويل وجهة المضخات علاوة على معدلات استرجاع تكاليف لا تتجاوز 40%. تبعا لذلك، يتخلف القائمون على المجامع عن خلاص الفواتير الخاصة بشركة الكهرباء ومزودي المعدات الآخرين. ينتج عن ذلك قطع متكرر للتيار الكهربائي وتدهور على مستوى منظومة الريّ.
في اطار التدابير الرامية لمجابهة جائحة كوفيد 19 المتبعة في شهر مارس، اتفق أغلب الولاّة، بمن فيهم والي القيروان، مع مصالح شركة الكهرباء على إرجاع التيار الكهربائي لمجامع التنمية الفلاحية المُدانة نظير تزويد هذه المجامع للمجتمعات الريفية بالمياه خلال الأزمة الصحية.
من جانب آخر، أفادت المجبري أن عدة مجامع لم تستأنف نشاطها خلال فترة الحجر الصحي. فهذه اخلالات ذات طابع هيكلي، وباستثناء بعض التجارب الناجحة، تعتبر الباحثة أن مجامع التنمية الفلاحية أصبحت ’’ عائقا أمام التنمية‘‘.
تلافيا لذلك، تقترح المجبري حلّ مجامع التنمية الفلاحية تماما وتعويضها بهياكل خدمية عامة أشبه بشركة وطنية لتوزيع المياه في المجال الريفي.
لكن هذه المجامع العاجزة لا تمثل في الواقع سوى جانبً من جوانب أزمة المياه في القيروان. ففي هذه الولاية تذهب المياه للمحاصيل المعدة للتصدير، في حين يُحرم منها الإنسان المتعطش.
تقول المجبري’’ تفتخر وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري من جهة بالمستويات القياسية لإنتاج الغلال والخضروات في القيروان وتشجع على إنتاج المحاصيل التي تحتاج إلى كميات هامة من المياه. ولكن، من جهة أخرى، عندما يقوم المواطنون باحتجاجات مطالبةً بمياه نظيفة، يُقال لهم أن البلاد ترزح تحت وطأة الشح المائي.‘‘
الأزمة على حد قولها لا تكمن في العرض، فللحكومة 3 سدود ضخمة تحت تصرفها، وهي سدود نبهانة وسيدي سعد والهوارب، فضلا عن مئات الآبار وعشرات الينابيع والمصانع الخاصة التي تقوم بتعليب وبيع المياه المعدنية التي تزخر بها المنطقة.
وفقا لموقع Agridata.tn، منصة وزارة الفلاحة الإلكترونية ذات البيانات المفتوحة، تعُّد القيروان كذلك 71 بحيرة جبلية، وهي عبارة عن خزانات اصطناعية مُصممة للحفاظ على الماء والتربة. تتشكل البحيرات الجبلية إثر بناء حواجز محيطة بالأحواض الطبيعية التي تتدفق إليها المياه من الجبال أو التلال. تحافظ هذه الحواجز على المياه المتدفقة مُشكلةً بذلك ما يعرف بالبحيرة الجبلية. يقع تزويد هذا الخزان بأنابيب ومضخات تقوم بريّ الأراضي الزراعية المحيطة. وتضمن هذه البحيرات بذلك تزويد المزارعين بالماء طوال أشهر السنة.
بحسب ما ذكره عالما الهيدرولوجيا صالح السالمي وصلاح نصري في ورقة بحثية قُدمت سنة 1997، تم الشروع بالعمل بتقنيات البحيرات الجبلية منذ بداية القرن العشرين في منطقة بنزرت شمالي البلاد. على الرغم من تعليق العمل بها لمدة طويلة نسبيا، أعادت وزارة الفلاحة اعتمادها خلال الستينات لحماية المناطق المحاذية للأنهار من الإنجراف. ولكن أوائل تسعينات القرن الماضي مثلت الفترة التي تحولت فيها البحيرات الجبلية الى خيار استراتيجي لتثمين مياه الأمطار المتناقصة سنة تلو الأخرى.
صبرية بركة وسامية المولهي، الباحثتان تباعا في مجالي العلوم السمية الايكولوجية والايكولوجيا البيولوجية، أكدتا هذا المنحى التنازلي للتساقطات في دراسة تم نشرها سنة 2016.
وقد توقعت الباحثتان في هذه الدراسة ’’ [أن] تتراجع معدلات سقوط الأمطار بحلول 2050 بنسبة تتراوح بين 2 و 16% في كامل البلاد… وستتفاقم الوضعية سنة 2100 إذ نتوقع تراجعا من 10 إلى 35%في كامل البلاد مع هبوط حاد في بعض المناطق في الوسط والجنوب يبلغ نسبة 60%.‘‘
’’ في الوقت إلي قاعدين نكونو فيه في حكومة مع كل ما يرافق ذلك من نقاشات و مواقف متباينة ثمة مواطنين طالبين الماء فقط اليوم.‘‘ جاء هذا على لسان هشام المشيشي رئيس الحكومة المكلف حينها، في نفس اليوم الذي شهد احتجاجات قرية أولاد نصر.
شرعت حكومة المشيشي في مهامها يوم 3 سبتمبر. إثر انتهاء العطلة البرلمانية في موفى شهر سبتمبر، من المزمع أن يناقش أعضاء البرلمان مسودة القانون الجديد المنتظر لإصلاح منظومة المياه والصرف الصحي.
في تصريح لمشكال، أوضح نضال عطية عن منظمة هنريش بول – تونس أن ’’النقاش حول هذا القانون سيكون محتدمًا لأن مسألة الماء مسألة حساسة وذات صلة مباشرة بالأمن الوطني‘‘
قانون جديد مثير للجدل
سيقوم هذا القانون بتعويض مجلة المياه الصادرة سنة 1975 والمنقحة لاحقا سنة 2001. وفقا لعطية، يجب أن يأتي هذا القانون شاملا ومراعيا للتطورات التشريعية الوطنية والدولية: الحق في الماء والحقوق الأخرى المُكرسة في الدستور، فضلا عن قانون الحكم المحلي لسنة 2018 وحق الأجيال القادمة في الماء وأخيرا تأثير التغيرات المناخية.
يرى عطية أن هذه الاعتبارات لم تكن جوهرية في مسودة القانون المقدمة من طرف الحكومة والتي تضمنت عدة ثغرات.
بالإضافة إلى الغموض الذي يلف بعض الفصول والمفاهيم وإنشاء عديد الهياكل الجديدة المسؤولة على إدارة المياه، لم يخف عطية انشغاله إزاء نقطتي ضعف أساسيتين في مسودة القانون الحكومية. تتعلق نقطة الضعف الأولى بمنظومة الواحات، التي اعترفت المجلة القديمة بخصوصيتها بينما وقع تجاهلها في النص الجديد، فيما تتمثل الثانية في افتقار مشروع القانون لمقاربة مراعية للنوع الاجتماعي.
في هذا السياق، شدد عطية على أن ’’ المرأة تلعب أدوارًا جوهرية في إدارة المياه في المجال الريفي، وعلى المجلة الجديدة أن تقدر أهمية هذه المساهمة حق قدرها.‘‘
فضلا عن منظمة هنريش بول، قامت عدة منظمات مجتمع مدني أخرى بتحليل مقترح الحكومة. ذهبت منظمات غير حكومية أخرى كنوماد 08 إلى اقتراح مسودة قانون بديل وقعت بلورة مضمونه خلال المنتديات المدنية المتعددة التي عقدت في كامل أنحاء البلاد بدعم من مكتب منظمة روزا لكسمبرغ في شمال أفريقيا.
احصت منظمة نوماد 08 في تقرير شهر أوت حول الاحتجاجات وكوفيد 19 233 احتجاجا في كامل أنحاء البلاد. واحتلت ولاية القيروان طليعة هذه القائمة ب23 احتجاجا، من ضمنها احتجاج قرية أولاد نصر.