تكلفة النفط في الصحراء التونسية

لقطة شاشة من موقع "خرائط جووجل" لبحيرة حمأة تكونت من فضلات النفط في البرمة، وهو موقع لاستخراج النفط في تطاوين.

على الرغم من افتقار السلطات التونسية والشركات الخاصة إلى الشفافية فيما يتعلق بالموارد الطبيعية الهيدروكربونية لتونس، كانت هذه الموارد موضوع نقاشات محتدمة في السنوات الأخيرة. في بعض الحالات، تقوم الدولة بالتنازل عن حقوق ملكيتها لهذه الموارد لصالح شركات أجنبية، ثم تقوم بشراء ذلك الغاز المستخرج لتلبية احتياجات الاستهلاك المحلي، الأمر الذي يتسبب في خسائر لخزينة الدولة. بينما يرى آخرون أن المشكلة تتعلق أساسا بعدم المساواة بين الجهات: يتم حرمان المناطق الداخلية الغنية بالنفط والغاز من الأرباح التي تعود على الدولة في شكل إعادة استثمار. وفي ذلك السياق، كانت هناك بعض المحاولات لفهم الحركات الاجتماعية والاحتجاجات حول قطاع النفط والغاز باعتبارها إعادة تعريف شعبية لنموذج التنمية.

ولكن يوجد كذلك قضايا بيئية وصحية محلية على المحك. تنقل فريق مشكال إلى ولاية تطاوين في شهر جانفي واستمع إلى العديد من الشهادات وقام بالنظر في تسجيلات فيديو بها أدلة على أن النفايات الخطرة الناتجة عن استخراج النفط والغاز من الصحراء قد تم إلقاؤها على الأرض مباشرة أو في حفر طافحة دون معالجة كيميائية مناسبة. ويعتبر ذلك أمرا مخالفا للقانون، ويقع في ظل غياب آليات الرقابة الرسمية لإنفاذ هذه القوانين. لم يتمكن فريق مشكال من التحقق مما إذا كانت هذه الممارسات تحدث بشكل منهجي، أم أنها مجرد حادث عرضي، لأنها بعيدة عن الأنظار، فهي تتم في مناطق صحراوية نائية، ومصنفة كمناطق عسكرية لا يمكن النفاذ إليها دون تصاريح خاصة. طلب فريق مشكال من الوكالة الوطنية لحماية المحيط التابعة لوزارة البيئة تقديم تعليق حول هذه المسألة، لكن المسؤولين أفادوا بأنهم هم أيضا عاجزون على الحصول على تصاريح للقيام بزيارات ميدانية لتلك المنطقة. وأفادوا بأنهم يعتمدون على شركات النفط، التي من المفترض أن يقوموا بتنظيم أنشطتها، لتسهيل زياراتهم الرقابية للمنطقة نظرا لغياب المعدات اللازمة للقيام بذلك.

صرح النشطاء لفريق مشكال أنهم شهدوا انعكاسات بيئية وصحية يعتقدون أنها ناتجة عن إلقاء النفايات غير المعالجة في المنطقة. وطالت هذه الانعكاسات صحة ورفاهية السكان في المناطق المجاورة، بما في ذلك، وعلى وجه الخصوص، رعاة الإبل الذين تعتمد سبل عيشهم على الموارد المائية الشحيحة في الصحراء. وأفاد سكان المنطقة أنهم لاحظوا كذلك إصابة الطيور بمشاكل صحية. إضافة الى ذلك أشار الخبراء لوجود انعكاسات بيئية خفيّة، كتلوث طبقة المياه الجوفية.

طلب معظم الأشخاص الذين أجروا مقابلات مع فريق مشكال عدم ذكر أسمائهم، حيث عبروا عن خشيتهم من المس بسلامتهم وسلامة عائلاتهم. ويجدر الذكر أن النشطاء الذين كانوا قد تحدثوا علنًا، وخاصة أولئك الذين شاركوا في احتجاجات الكامور، تعرضوا للاعتقال والقمع العنيف من قبل السلطات. طلب مدير شركة واثنان من كل ثلاثة مسؤولين في الدولة من الذين تحدثنا معهم التستر على هويتهم، لكونهم ممنوعين من التحدث إلى الصحافة. كما صرح النشطاء أيضًا إنهم يتعرضون لأعمال انتقامية من أصحاب العمل، لأن صناعة النفط والغاز هي أكثر صناعة مدرة للأرباح في منطقة تعاني من نسب بطالة مرتفعة للغاية.

بدأت حركة الكامور الاحتجاجية في شهر أفريل من سنة 2017، عندما شن المتظاهرون اعتصامًا في محطة الكامور لضخ النفط والغاز في صحراء تطاوين لمطالبة الدولة بالاستثمار في جهتهم وتوفير مواطن شغل لهم. وطالب المتظاهرون بالتنمية وبافادة المنطقة من عائدات النفط والغاز الطبيعي. وبالرغم من انتصار المتظاهرين وتقديم السلطات لتنازلات على شكل اتفاقية موقعة، الا أن الحكومة لم تلتزم بمعظم وعودها الواردة في الاتفاقية، مما أدى إلى استمرار الاحتجاجات. أطلقت جمعية مكافحة الفساد المالي والإداري وتدعيم الشفافية “أنا يقظ” مشروعا في سنة 2020 يسمى “الكامورميتر” (أو “عداد الكامور”) والذي يقوم بحساب عدد تعهدات الاتفاقية التي أوفت بها الحكومة، والذي بلغ نسبة 33 بالمائة من التعهدات عند إطلاق المشروع، لكن هذه النسبة لم تتغير منذ بدء العدّ. رغم ذلك، يقول النشطاء إن حركة الكامور الاحتجاجية قد أعادت تنشيط المساعي لتحقيق مزيد من الشفافية حول قضايا القطاع النفطي.

إلقاء الحمأة مباشرة في جوف الأرض

ينتج عن استخراج النفط والغاز نفايات ثانوية، وهي أنواع من الحمأة أو الطين الذي وصفه المختصون لِفريق مشكال بأنه تربة ملوثة بالنفط والمواد الكيميائية تظهر أثناء عملية الاستخراج. تستخدم تونس طريقة لمعالجة هذه النفايات تسمى “آس آس” (أو “ت ت”)، وهي اختصار لكلمتي “التصلب والترسيخ”. يحتوي الدليل الموجز لهذه العملية، والذي أصدرته وكالة حماية البيئة الأمريكية على وصف للتقنية كالآتي “تربط عملية التصلب بين عناصر النفايات في كتلة صلبة من المواد، وتثبتها بمكانها… تؤدي عملية الترسيخ إلى تفاعل كيميائي يقلل من احتمالية ترشيح الملوثات في البيئة.” تشير وكالة حماية البيئة إلى أن هذه الطريقة للتخلص من الملوثات ذات تكلفة منخفضة نسبيًا. وأوضح مهندس تونسي مختص في هذا المجال لمشكال أن العديد من البلدان الأخرى تستخدم تقنية أكثر حداثة تسمى الامتزاز الحراري.

لكن حسب ما صرح به العديد من النشطاء والمهندسين وغيرهم من العاملين في القطاع لفريق مشكال، فإن النفايات في مواقع استخراج النفط والغاز في صحراء ولاية تطاوين لا تتم معالجتها على الإطلاق في بعض الأحيان. تقع معظم حقول النفط والغاز البرية التونسية في ولاية تطاوين، والتي تضم عددا قليلا من المدن الصغيرة بما في ذلك مدينة تطاوين. يمكن رؤية مثال مذهل من الفضاء، وهو متاح على خرائط جووجل بصور الأقمار الصناعية: بحيرة حمأة سوداء خارج حقل التنقيب عن النفط في البرمة قرب الحدود الجزائرية. وفقًا للعديد من الخبراء الذين التقى بهم فريق مشكال في تطاوين، فإن بحيرة الحمأة هذه موجودة منذ السبعينيات من القرن الماضي، وهي مليئة بمياه ملوثة من النفايات الناتجة عن عمليات التنقيب عن النفط. كما تظهر في صور القمر الصناعي الأنابيب التي تربط حقل التنقيب بتلك البحيرة.

رامي (وهذا اسمه المستعار) هو خبير قال إنه تم تعيينه كمستشار مستقل لتعمير استمارات امتثال وهمية نيابة عن شركات تصرف في النفايات، وتقوم هذه الأخيرة بتقديم هذه الاستمارات لشركات النفط التي تتعاقد معها. ويضيف “من المفترض أن تكون هذه الفضلات في حاويات مغلقة، ولكن كما ترون، فها هي تطفو”.

قام فريق مشكال بإجراء مقابلة بمقر الوكالة الوطنية لحماية المحيط في 16 فيفري 2022 بتونس مع أحد المسؤولين بالوكالة – والذي طلب عدم ذكر اسمه – وياسين المرزوقي، رئيس قسم الدراسات بالوكالة، أفادا خلالها بأنهما كانا يعتزمان القيام بزيارة ميدانية إلى البرمة، لكن غياب الموارد حال دون ذلك.

وأضافا أن هناك 24 سيارة على ذمة الوكالة، عمر أحدث واحدة منها 11 سنة. وهذه السيارات ليست في وضع يسمح لها بالقيام برحلات صحراوية. لذا فإن الوكالة تعتمد على شركات النفط، والتي من المفترض أن يشرفوا عليها، لمساعدتهم على القيام بمثل هذه الزيارات. كما شرح مسؤولون بالوكالة الوطنية لحماية المحيط لمشكال بأنهم يواجهون صعوبة في الحصول على إذن من المؤسسات الحكومية الأخرى لزيارة المناطق الصحراوية، والتي تم تصنيفها كمناطق عسكرية في سنة 2012. يحدث هذا بالرغم من أن المادة 8 من الأمر عدد 2273 لسنة 1990 تمنح الخبراء المراقبين التابعين للوكالة الوطنية للطاقة لحماية المحيط “حق النفاذ إلى جميع المؤسسات العامة والخاصة” المكلفة بمراقبتها.

وأضاف المسؤولون إن مهامهم تقتصر فعليا على تحرير محاضر عن المخالفات، وإحالتها على وكيل الجمهورية (كما ورد بالمادة 12 من القانون 91 لسنة 1988، والذي أحدث الوكالة الوطنية لحماية البيئة).

تتبع الوكالة الوطنية لحماية البيئة وزارة البيئة. في سنة 2020 ، تم القبض على وزير البيئة السابق و22 مسؤولاً آخرين كجزء من فضيحة فساد شملت التصرف في النفايات والوكالة الوطنية للتصرف في النفايات التابعة لوزارة البيئة، والتي قامت بتوريد نفايات منزلية من إيطاليا.

يشير مقال من سنة 2013 إلى أن حقل البرمة لا يزال يحتوي على أكبر احتياطي نفطي قابل للاستخراج في الجمهورية التونسية، حيث بلغ 750 مليون برميل في ذلك الوقت. وبموجب اتفاق امتياز حقل البرمة، فإن الحقل يخضع للشركة الإيطالية التونسية لاستغلال النفط بنسبة 100% بحسب موقع المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية.

بينما يعود تاريخ بحيرة الحمأة في البرمة إلى السبعينيات من القرن الماضي، يبدو أن هناك انتهاكات أحدث عهدا لا تزال قائمة. قام فريق مشكال بمشاهدة مقطعي فيديو عرضهما الناشط شوقي (وهذا اسمه المستعار) يتم فيهما إلقاء الحمأة مباشرة في حفرة مفتوحة، دون استعمال أي مادة مانعة للتسرب أو حاوية. يشير شوقي، وهو أيضًا عضو في لجنة التفاوض في حركة الكامور الاحتجاجية، إلى أن تاريخ الفيديو يعود إلى سنة 2018، وتم تسجيله من قبل عمال شركة للتصرف في النفايات من الذين كانوا يعملون داخل حقل التنقيب عن النفط. قال شوقي أنه تحصل على مقاطع الفيديو من هؤلاء العمال.

صورة مأخوذة من مقطع فيديو تم عرضه لمشكال، يتم فيه إلقاء نفايات خطرة من موقع للإنتاج النفطي في تطاوين على الأرض مباشرة في سنة 2018، حسب ما قاله النشطاء.
صورة مأخوذة من مقطع فيديو تم عرضه لمشكال، تظهر فيها نفايات خطرة من موقع للإنتاج النفطي في تطاوين يتم تصريفها بصورة غير مناسبة في سنة 2018، حسب ما قاله النشطاء.
صورة مأخوذة من مقطع فيديو تم عرضه لمشكال، تظهر فيها نفايات خطرة من موقع للإنتاج النفطي في تطاوين يتم تصريفها بصورة غير مناسبة في سنة 2018، حسب ما قاله النشطاء.

قال شوقي إنهم حاولوا لفت انتباه وسائل الإعلام الوطنية لمقاطع الفيديو، وقد لاقى الموضوع اهتمام برنامج شهير للصحافة الاستقصائية التلفزيونية في بادئ الأمر، ولكن لم يتم التطرق إلى هذه المسألة في نهاية المطاف. أما بالنسبة للعمال، يقول شوقي أنه تم فصلهم عن العمل بعد ذلك، لكن فريق مشكال لم يتمكن من التحقق من هذه المعلومة أو الاتصال بأي من العمال الذين شاركوا بتسجيل الفيديوهات.

يضيف شوقي بأن إلقاء هذه النفايات بشكل مباشر في جوف الأرض، كما يظهر في الفيديو، هو انتهاك لبروتوكولات الصفقات العمومية [المدرجة في كراس الشروط] والتي تنص على الطرق المناسبة لمعالجة النفايات. ويشير شوقي إنهم واجهوا صعوبات في الحصول على نسخة من البروتوكولات، والتي من المفترض أن تكون وثيقة عمومية، إلا أن النفاذ إليها قد يكون عسيرا في بعض الأحيان.

“معالجة” النفايات بأقل بكثير من التكلفة

ليست كل المشكلات المتعلقة بالتصرف في النفايات واضحة بمثل وضوح الإلقاء بها مباشرة على الأرض. وفقًا للأشخاص العاملين في هذا القطاع، يوجد كثير من التحيل والأساليب الملتوية للتخفيض من التكاليف. هناك ثلاث شركات رئيسية للتصرف في النفايات في تطاوين تلعب دور مقاول من الباطن لشركات البترول: نيو أوستير للخدمات البترولية وڨولدن بتروليوم سرفيس  وشركة حسناء للخدمات البترولية. جميع المزاعم حول المعالجة غير السليمة للنفايات التي سمعها فريق مشكال توجه أصابع الاتهام إلى شركتين فقط من هذه الشركات الثلاث. وادعى أحد المسؤولين في الوكالة الوطنية لحماية المحيط أن أي مزاعم تتعلق بانتهاكات بيئية ما هي إلا محاولة من إحدى الشركات لتشويه سمعة الشركات الأخرى عن طريق بث معلومات كاذبة.

لكن بدر (وهذا اسمه المستعار)، والذي يعمل مهندسًا في هذا القطاع، أوضح أن بعض الشركات قد قامت بالتحيل للتخفيض من التكاليف، إما عن طريق الإفراط في استغلال حفر النفايات، حيث يتم ملؤها بقدر ثلاثة أضعاف سعتها، أو عن طريق إلقاء النفايات بهذه الحفر دون معالجة كيميائية للقضاء على المواد الملوثة داخلها، أو باستعمال كليهما: الإفراط في الملء وعدم المعالجة. وحسب ما أفادنا به بدر، تتراوح التكلفة الفعلية لمعالجة الحمأة البترولية بشكل سليم بين 65 و70 دينارًا للمتر المكعب الواحد، ولا يشمل ذلك التكاليف الأخرى مثل اليد العاملة والمعدات. وبالرغم من ذلك، فإن هناك عقودا موقعة بقيمة 30 دينارا للمتر المكعب الواحد، ودائما يفوز بالمناقصة من يعرض أقل سعر. لتحقيق ربح بهذه الأسعار، يتم التحيل لخفض التكاليف. ويزعم بدر أن جهات الرقابة على علم بكل ذلك، دون تحريك ساكن.

“ويقومون بتغطية العديد من الحفر التي لم تتم معالجتها [على أي حال]. لماذا يقومون بتغطيتها بتكلفة منخفضة؟ لأنهم لا يقومون بالمعالجة فعليا. على الرغم من أن المعالجة أمر إجباري”.

قدم أنور، وهو ناشط محلي آخر، رواية مماثلة عن كيفية فوز الشركات بالمناقصات من خلال تقديم أسعار أقل من التكلفة الفعلية للمعالجة، ومن ثم التحيل لتخفيض الكلفة عن طريق تقديم بيانات مضللة بشأن كمية النفايات التي يقومون بمعالجتها، أو عدم معالجتها بشكل كامل.

يضيف أنور “هم يقولون ‘قمنا بالعمل على معالجة كمية كذا’، ومن ثم يلقون بها في حفرة غير مهيأة، في وسط حفرة… تصب مباشرة على مستوى المياه الجوفية”.

كما قام رامي، مستشار الامتثال، بشرح الطرق الملتوية لخفض التكاليف، والتي تتسبب بالتلوث.

“تتسم عمليات التصرف في النفايات هذه بتكلفتها الباهظة، وبما أن الفساد يعم البلاد، يتم منح ميزانية هزيلة بالكاد تغطي كلفة معالجة نفايات منزلية، ناهيك عن النفايات الخطرة”، يضيف رامي.

قال رامي إن جزءًا من التكلفة التي تقوم شركات المعالجة بالتملص منها هي تكلفة النقل، أي نقل النفايات بعيدًا عن موقع الاستخراج الأصلي.

“بمجرد الشروع في التخلص من الطين [أي الحمأة]، فإنه يبدأ بالتدفق خارج الحاويات مباشرة إلى الأرض… وبما أن وجهة هذه النفايات تبعد 70 كيلومترًا، ونظرا لارتفاع كلفة نقلها، فإنهم يقومون بتكديسها، وتتراكم إلى أن تصبح كجبل صغير” على حد تعبير رامي.

وفي حديث مشكال مع مسؤول ثالث من الوكالة الوطنية لحماية المحيط، والذي وافق على اللقاء شريطة عدم الكشف عن هويته بما أنه ممنوع من التحدث إلى الصحافة، قام هذا المسؤول بتفنيد تلك المزاعم. ورغم اقراره بأن الوكالة نادرًا ما تقوم بزيارات ميدانية، إلا أنه ادعى أن مثل هذه الانتهاكات – إن وجدت – ستتناهى إلى مسامع الوكالة عن طريق الجيش والحرس الوطني بالمنطقة.

صحة العمال

أكد رامي أن صحة العمال معرضة للخطر بسبب بيئة عملهم عند التخلص من النفايات الخطرة. على العمال أن يكونوا على مستوى عالٍ من التدريب، وأن يرتدوا معدات وقاية لكي يتم العمل في ظروف مناسبة. لكن أصحاب العمل غالبًا ما يوظفون يدا عاملة من دون أي تدريب، ولا يوفرون لهم أي معدات وقاية خاصة.

ويضيف “كل شيء في هذا القطاع يتطلب أشخاصا متخصصين بمجال معين. أما واقع الحال فهو أن العاملين غير مدربين، وليسوا مجهزين بالمعدات الوقائية اللازمة. فهم يذهبون إلى العمل بالحفرة مرتدين ملابس قماشية، وحاملين مجرفة عادية، ويقضون هناك نصف ساعة على الأقل، يتعرضون فيها لأخطر أنواع الغازات، خصوصا كبريتيد الهيدروجين و[أبخرة] البنزين وثاني أكسيد الكربون، إلخ”.

قال رامي أيضًا إن العاملين في شركات التخلص من النفايات “يتقاضون الحد الأدنى من الرواتب، ويتم عزلهم عن العالم الخارجي”.

مسؤول بإحدى الشركات ينفي الادعاءات

ومع ذلك، التقى فريق مشكال كذلك بمدير مسؤول عن نظافة العمال وسلامتهم في إحدى شركات التصرف في النفايات، يدعى نزار (وهو اسم مستعار كذلك لأن شركته تمنعه من الحديث إلى الصحافة). نفى نزار مزاعم رامي بشأن سلامة العمال. وقال لمشكال إنه يتم توفير معدات واقية للعاملين بشركته، ولا يتم تعريضهم بتاتا لانبعاثات الغازات السامة أثناء عملهم.

ويشرح نزار قائلا “كبريتيد الهيدروجين على سبيل المثال هو غاز سريع الاشتعال، وسيتسبب تسربه إلى السطح في حدوث انفجارات، ولا يعقل أن يحدث مثل هذا الأمر”، مضيفًا أنه يتم منح العمال أحذية خاصة للعمل في الموقع.

كما نفى نزار نفيا قاطعا معرفته بقيام شركات التصرف في النفايات بإلقاء نفايات خطرة في جوف الأرض مباشرة، وأصر على أن الشركات العالمية الكبيرة وذات السمعة الطيبة لن تخاطر باللجوء إلى أساليب ملتوية للتخفيض من التكاليف، ولا سيما أن تكاليف الامتثال تعتبر منخفضة نسبيًا بالنسبة لهذه الشركات.

ويضيف “من المؤكد أن بعض الشركات لا تلتزم باتباع القوانين، لكن الشركات الكبرى تحترم القانون… قبل الشروع بالعمل، يتم القيام بتدريب على الأمن والنظافة. ويتم فصل كل من لا يلتزم بالإجراءات الأمنية… الأمر لا يتعلق بالتكلفة بتاتا. تحقق هذه الشركات إيرادات تقدر بأكثر من مليار دينار للعملية الواحدة. هل تعتقد أن تكلفة التصرف في النفايات، والتي تبلغ 500 ألف دينار فقط، ستقض مضجعهم؟”.

تأثر رعاة الإبل

على الرغم من أن حقول البترول ومواقع التخلص من النفايات بعيدة عن المناطق الحضرية، لا يزال السكان المحليون يعانون من عواقب التخلص غير السليم من النفايات في صحراء تطاوين. ومن بين هؤلاء المتضررين مزارعون في الذهيبة، وهي بلدة على المعبر الحدودي مع ليبيا، جنوب مدينة تطاوين. التقى فريق مشكال بمصطفى قويدر، رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة بالذهيبة، وعدد من رعاة الإبل الذين قالوا إنهم متضررون من التلوث.

قال قويدر “كنا نعتقد أن تواجدنا في الصحراء يجعلنا أقل تعرضًا لمثل هذا الضرر، ومع ذلك، فقد وجدنا أنفسنا بمواجهة حفر عشوائية في قلب [الصحراء]”.

“هناك تقصير في الرقابة [من طرف الدولة] في الصحراء. فقد أحد مزارعينا 14 من إبله، بعد سقوطهم في مستنقع نفايات… “الدابة لا تطيح تقعد فم” قال قويدر مفسراً أن الإبل تختلف عن باقي الحيوانات؛ فإن حياتهم تنتهي حال سقوطهم وكسر قوائمهم، لأنهم سيكونون عاجزين عن النهوض مجددا.

شبه قويدر مستنقع النفايات ببحيرة الحمأة الكبيرة في البرمة – أي أنها نفايات خطرة ناتجة عن عمليات الحفر لم يتم التخلص منها بشكل سليم.

وأوضح محمد توزني، راعي الإبل الذي فقد 14 من إبله “إنهم يستخدمون كل الماء لاستخراج النفط، ثم يلقون بالنفايات على الأرض مباشرة”. يباع الإبل الواحد بأكثر من ألفي دينار، أي ما يتجاوز أربعة أضعاف متوسط ​​دخل الأسرة الشهري.

في الوقت نفسه، أفاد هؤلاء الرعاة أن الإبل والطيور المحلية تعاني من مشاكل صحية ناجمة عن الحمأة الملوثة التي خلفتها الشركات النفطية في وسط الصحراء. وقالوا كذلك إن الطبيب البيطري الوحيد في المدينة يقوم أحيانًا بإرسال عينات من الكشوفات الصحية على الإبل المريضة إلى العاصمة تونس بغرض التحليل المختبري في وزارة الفلاحة، ولكنه لا يتلقى أي ردود منهم.

وأضاف توزني: “كرهنا العيشة كلها”.” لم يقم أي مسؤول بزيارتنا منذ سنة 2010 … هناك تمييز واضح في التعامل معنا مقارنة بالشركات”، يؤكد توزني. 

استنزاف مصادر المياه الفلاحية

لا يفقد الرعاة إبلهم بسبب التلوث فقط. قال قويدر أن الشركات النفطية تفرط في استغلال المياه الجوفية المحلية والتي من المفترض أن تكون مخصصة للحاجيات الفلاحية فقط على حد تعبيرهم، مما يجعل تزويد الإبل بمياه الشرب أمرا عسيرا.

وقال قويدر “تستغل هذه الشركات الآبار الفلاحية دون وجه حق… تحول الفلاحون اليوم إلى متسولين لمجرد مطالبتهم بحقهم… والأدهى والأمر أنهم قاموا بحفر ساتر ترابي يحد من المناطق التي يمكن أن تسرح فيها إبلنا”.

في سنة 2016 قامت الدولة بحفر ساتر ترابي على الحدود الليبية، يُزعم أن الهدف منه هو ردع حركة الجهاديين لكن الرعاة في الذهيبة يقولون بأن هذا الساتر ترابي أثر عليهم بشكل سلبي، حيث لم تعد الجمال قادرة على عبور الحدود للبحث عن المياه والأكل في الصحراء بعد حفره.

تم الحد من نفاذ عامة الناس إلى المياه بشكل متزايد على مدى السنوات الأخيرة، حيث تمت خصخصة موارد المياه أو إعادة توجيهها إلى الشركات الكبرى.

يقول سامي عون، رئيس جمعية حماية البيئة بالذهيبة، “مصادر المياه ملك للدولة. يجب ألا يتحول الفلاح إلى متسول… وعلى هذه الشركات أن تعامل رعاة [الإبل] معاملة حسنة، وأن تعطيهم الأولوية”.

وأضاف عون أن “غياب رقابة الدولة هو السبب بكل ذلك… هناك غياب كامل للرقابة التي من المفترض أن تجبر [شركات النفط] على الالتزام بالقوانين”.

يقول رعاة منطقة الذهيبة إنه من الأجدر بالسلطات أن تقوم بالحد من تأثير قطاع النفط على البيئة.

ويضيف عون “هناك غياب تام للرقابة وتعتيم متعمد… قطاع [الإنتاج النفطي] بأكمله… هو بذاته صندوق أسود، ولن يأبه أحد بالتداعيات. لكن إذا استمر الحال على ما هو عليه الآن، فإن الأجيال القادمة ستعاني من عواقب وخيمة.”

أشار عون إلى غياب الرقابة من وزارة البيئة والهيئات التابعة لها في الذهيبة، وهي نفس الملاحظات التي قدمها خبراء بتطاوين لفريق مشكال.

قال عون “ليس لدينا حتى تمثيل إقليمي حقيقي للوكالة الوطنية لحماية المحيط”.

وأخبر مسؤولو الوكالة الوطنية لحماية المحيط فريق مشكال أن لديهم ثمانية مكاتب تمثيلية في جميع أنحاء الجمهورية، والمكتب المعني بتطاوين يقع في ولاية ڨفصة، وهي ليست قريبة من تطاوين أين تتم معظم عمليات النفط البرية في تونس. تبعد قفصة مسافة حوالي 400 كيلومتر عن الذهيبة.

غياب الشفافية والرقابة

لا يقع اللوم على شركات التصرف في النفايات حسب اعتقاد شوقي، فهو يرى ان الجهات المسؤولة عن التلوث هي الشركات النفطية التي توظفهم، والمسؤولون المقصرون بمهام الرقابة.

“تعمل شركات [النفط] هذه منذ أكثر من 60 عامًا، ولا يرغب [المسؤولون] في اطلاعنا على أي تفاصيل حول أنشطتهم… عندما تبدأ بطرح مثل هذه الأسئلة، فإنهم يغلقون أبوابهم بوجهك.”

غياب شفافية المسؤولين في هذا القطاع ليس أمرا حديث العهد. في سنة 2014، تلقى رئيس لجنة الطاقة في مجلس نواب الشعب تهديدات بالقتل بعد أن باشر أشغال الرقابة على الامتيازات التي منحتها الدولة للشركات النفطية الأجنبية.

وقال شوقي “لا يوجد سبيل للاطلاع على كراس الشروط التي تنظم عمل هذه الشركات”، مشيرًا إلى أن غياب الشفافية يقترن ضرورة بوجود الفساد حسب اعتقاده. “أنا متأكد من أن التعمق في البحث بهذه المسألة سينتج عنه [اكتشاف المزيد] من الانتهاكات البيئية والصحية.”

يأمل شوقي قيام الحكومة بالرقابة المباشرة على الأنشطة المتعلقة بالنفط والغاز في صحراء تطاوين لضمان تسجيل أي مخالفات للقوانين البيئية والصحية، وتتبع مرتكبيها قضائيا.

الصحراء كمنطقة عسكرية

وما يزيد الطين بلة هو منع أي شخص من دخول هذه المناطق دون تصريح خاص من الحكومة، وهو الأمر الذي زاد من تعقيد مسألة غياب الشفافية، ويسمى هذا التصريح بـ”بطاقة الصحراء” (أو بطاقة التجول الخاصة). في شهر جوان من سنة 2012، قامت وزارة الدفاع بإعلان الصحراء التونسية منطقة عسكرية مغلقة، وأن دخولها يتطلب بطاقات تجول خاصة.

ولكن بطاقة التجول الخاصة هذه لا تسمح لحاملها بزيارة أكثر من منطقة واحدة فقط من الصحراء، لذلك يصعب على أي شخص جمع ما يكفي من البيانات حول الانتهاكات الصحية أو الأمنية أو البيئية. أخبر مسؤولو الوكالة الوطنية لحماية المحيط فريق مشكال أنهم يواجهون صعوبات في الحصول على مثل هذه البطاقات للقيام بتحرياتهم.

قال الناشط المحلي أنور: “لا يمكن لأي شخص السفر لعدة مناطق بالصحراء، يتم حصر تواجد كل وافد عليها بمنطقة محددة… ويتوجب العمل على عين المكان وبطريقة مباشرة من أجل جمع… البيانات”.

ويشرح رامي، المستشار المكلف بالامتثال “يستحيل على أحد النفاذ إلى الصحراء إلا للعاملين بها. وحتى أولئك الذين يعملون هناك، لا يُسمح لهم بالنفاذ إلا لمناطق محددة فقط، لا غير.”

يقول السكان المحليون أن المناطق العسكرية المغلقة ومنظومة بطاقة التجول الخاصة قد زادتا من تعقيد مشكلة نقص المعلومات. علاوة على ذلك، يقول النشطاء أن المسؤولين يقومون بردع كل من يقوم بإبداء الاهتمام بالانتهاكات البيئية أو أي طرح تساؤلات حولها، مستخدمين المنطقة العسكرية كذريعة للتهرب من مثل هذه التساؤلات.

قال شوقي: “نريد منهم فتح الصحراء للخبراء كي يلقوا بنظرة، نريد منهم السماح لنا بالدخول… أنا متأكد من أن هؤلاء الخبراء سيكتشفون الطامة الكبرى… هذه ليست مثل النفايات [المنزلية] الإيطالية التي يمكن حرقها” في إشارة منه إلى قضية الفساد التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، والتي أسفرت إقالة وسجن وزير البيئة السابق. وأضاف شوقي: “يجب تحمل المسؤولية”.

ويقول رامي أن إجراءات حد النفاذ إلى الصحراء ببطاقات التجول الخاصة تمنح أصحاب العمل نفوذاً أكبر على العمال الذين يتوجب عليهم التنقل إلى الصحراء للعمل.

ويضيف “مجرد دخولك للصحراء يجعلك تحت رقابة الشركة نفسها”.

وأوضح رامي أن العمل في الصحراء هو مصدر الشغل الوحيد للكثيرين في تطاوين، ولهذا السبب، يصعب العثور على أشخاص يرضون الحديث بمثل هذا الموضوع. وأشار رامي أن هذا هو أحد الأسباب التي جعلته يطلب من فريق مشكال التستر عن هويته واتخاذ اسم مستعار. وذكر أنه قام في الماضي بالتنديد علنًا بإجراءات عمل غير سليمة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتم بعد ذلك حرمانه من حق النفاذ إلى منطقة معينة في الصحراء.

ساهم أشرف الشيباني في كتابة هذا المقال.