جدت حادثة على الطريق الفاصلة بين البحيرة 1 والبحيرة 2 منذ حوالي سنتين، حيث اصطدمت سيارة بأماني حمداني وصديقها، على الرغم من ارتدائهما لمعدات واقية عاكسة للأضواء. تحصن السائق بالفرار من مكان الحادث، وقد نجح كذلك في التنصل من تحقيقات الشرطة وأي تتبعات عدلية، مع أنه كان قد قام بزيارة خاطفة للضحيتين بالمستشفى. وشاءت الأقدار أن تنجو أماني ببعض الكدمات الشديدة فقط، إلا أن صديقها عانى من كسر على مستوى الساق، ولم يمتط دراجة هوائية منذ ذلك اليوم.
عادت أماني للركوب على دراجة هوائية – وإن لم تكن دراجتها الشخصية، حيث استغرق العثور على عجلة بديلة لها سنة كاملة، ويعود ذلك لعدم توفر لوازم وقطع غيار الدراجات في تونس.
أماني هي المديرة التنفيذية لشركة “بيدالو” لخدمات التوصيل بالدراجات الهوائية، وتشتغل هي نفسها بالتوصيل أحيانا. وتقول أماني “عند الحديث مع رفاقي من راكبي الدراجات، فإن موضوع حوادث الطرق متواتر… وهي هاجس يومي”.
لقي 2595 شخصًا حتفهم في حوادث سير في تونس عام 2016 حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، اثنان بالمائة منهم من راكبي الدراجات الهوائية، مما يعني مقتل حوالي 52 راكبًا. يصل عدد القتلى في تونس بحوادث المرور المميتة ما يقرب من 23 قتيلاً على كل 100.000 ساكن سنويًا، وهو معدل مرتفع نسبيًا مقارنة بالدول الأخرى في العالم، على الرغم من أن العديد من البلدان الأفريقية الأخرى بها معدلات مماثلة.
قام موقع مشكال بالتواصل مع أعضاء نوادي ركوب الدراجات الهوائية، وجمعيات ركوب الدراجات الهوائية، والشركات التي تقدم خدمات لراكبي الدراجات الهوائية، وقد أفاد جميعهم بأن حلقاتهم الاجتماعية تتضمن العديد من الضحايا الذين أصيبوا بجروح خطيرة أو قُتلوا في حوادث السيارات. ولكن هذه الطرق المحفوفة بالمخاطر المميتة لم تردع العديد من راكبي الدراجات الهوائية من الخروج إليها لافتكاك مساحة لهم من السيارات، ولدعوة آخرين للإنضمام لهم على الدراجات. يقول راكبو الدراجات الهوائية أنهم يبذلون قصارى جهدهم لمجابهة العقبات التي وضعتها الحكومة والمصالح الخاصة والأعراف الاجتماعية، ويقومون بتصور منظومة نقل وتصميمات حضرية أكثر عدالة من الناحية الاجتماعية ويسعون لبنائها.
العقبات الرسمية
في عام 2017، نظمت الجمعية التونسية للتشجيع على استعمال الدراجات الهوائية “فيلوريسيون” أول تظاهرة لها بعنوان “تونس بالدراجات”. وقال أحد مؤسسي الجمعية حمزة عبد الرحيم أن هذه التظاهرة “تهدف لتوعية الناس بفوائد استخدام الدراجات الهوائية، وتهدف كذلك لإظهار مكانتنا في المدينة”.
وقال عبد الرحيم لمشكال: “ستثبت هذه التظاهرة تواجد دراجات هوائية وتواجد راكبي الدراجات الهوائية للحكومة والسلطات، مما يعني أنهم مسؤولون عن توفير الأمن لهؤلاء الركاب”.
وبدل أن تتفطن السلطات لمسؤوليتها تجاه هذا العدد من مستعملي الدراجات الهوائية وتوفير الحماية لهم، قامت بدل ذلك بالتعامل مع التظاهرة نفسها كتهديد أمني في حد ذاته.
قال عبد الرحيم: “جمعت النسخة الثانية من تظاهرة ‘تونس بالدراجات الهوائية أفضل’ حوالي 300 شخص في باب بحر، وكان عدد رجال الشرطة المحيطين بنا يقدر بعشرة أضعاف عدد المشاركين”.
وأوضح عبد الرحيم أن الرقابة المشددة من قبل قوات الشرطة هي ردة الفعل الأولية المعتادة تجاه كل ما يعتبر جديدا أو غير مألوف.
“لدينا قيود ثقافية في تونس، مما يعني الرفض القاطع في البداية. لا توجد حتى محاولة لفهم الفكرة، الرفض هو رد الفعل الأولى. لكن يتوجب مجابهة هذا الرفض والتغلب عليه، ثم ستكون الأمور يسيرة بعد ذلك”.
نظمت “فيلوريسيون” حوالي 30 نسخة من تظاهرة “تونس بالدراجات الهوائية أفضل”، وخفت حدة الرقابة من قوات الشرطة بمرور الوقت.
الضغط على السلطات
يبدي بعض المسؤولين الحكوميين استعدادهم للتفاعل مع جمعيات ركوب الدراجات الهوائية – تقول جمعية “فيلوريسيون” أنها تلقت ردود فعل إيجابية من بلديتي مرسى وجندوبة، وقد أبدت البلديتان استعدادهما للمشاركة في مشاريع لبناء ممرات لركاب الدراجات الهوائية. وقامت جمعية “فيلوريسيون” بالعمل بالفعل مع بلدية أريانة لإحداث موقف للدراجات الهوائية – والتي يستفيد منه مستعملو الدراجات في تنقلهم إلى عملهم قبل امتطاء وسيلة النقل الموالية، مثل الحافلات أو القطارات التي تلتقي في أريانة.
قال عدنان بن حاج يحيى، مؤسس شركة “بيدالو” لخدمات التوصيل بالدراجات الهوائية، والذي نشأ في أريانة وقضى حياته فيها، أن موقف الدراجات الهوائية بأريانة “مفيد للغاية”.
ويقول بن حاج يحيى “أحدثت جمعية ‘فيلوريسيون’ أول موقف للدراجات الهوائية، وقد امتلأ بالكامل في غضون يوم واحد. إن الناس يستعملون هذا الموقف بالفعل”.
أبدت بعض البلديات تجاوبا مبدئيا لمطالب راكبي الدراجات الهوائية بإعادة تشكيل المدينة، إلا أن هذا التجاوب نادرا ما يدوم. هناك عدد محدود من المجموعات المعنية بركوب الدراجات الهوائية ذات نفوذ كافٍ للضغط على المسؤولين المنتخبين من أجل تهيئة البنية التحتية لركوب الدراجات، ومع ذلك فإن التفاعلات الإيجابية المبدئية من هؤلاء المسؤولين عادةً ما تكون جوفاء.
يقول حمداني “خلال المناقشات الأولية، يقول [المسؤولون]: ‘إذا يمكننا القيام بهذا وذاك.’ ثم [يسألون] بعد ذلك: ‘هل تعتقد حقًا أن هذا أمر مفيد؟ هل هناك أرباح مادية؟’، ومن ثم يبدؤون بالتراخي عن القيام بالإجراءات”.
كان هناك مسار بديل لنصرة هذه القضية، وهو الاجتماع بأعضاء البرلمان المرتقبين قبل الانتخابات التشريعية في عام 2019.
وفقًا لعبد الرحيم من جمعية “فيلوريسيون”، فقد حاولوا إقناع مرشحي البرلمان بتضمين الترويج لركوب الدراجات الهوائية باعتباره “حلًا بديلًا للنقل” في برامجهم الانتخابية. وقد نجحوا في ذلك إلى حد ما، إذ أن بعض المرشحين قدموا وعودًا بأنهم “سيبذلون قصارى جهدهم لدعم الحركة ودعم النقل الأخضر في تونس”.
“ولكن، بصراحة، مازلنا ننتظر تجسد هذه الوعود بشكل جدي”.
ألا توجد أحياء لركوب الدراجات الهوائية؟
نشأت جمعيات ونوادي غير ربحية لركوب الدراجات الهوائية بهدف تعزيز التواصل بين سائقي الدراجات الهوائية وركوب الدراجات بشكل عام، وبالتوازي مع ذلك، نشأت أيضا شركات ربحية جديدة معنية بهذا القطاع للاستفادة من الشعبية المتزايدة لركوب الدراجات الهوائية. فُتحت متاجر للدراجات الهوائية تختص في بيع قطع الغيار أو تقديم خدمات الإصلاح والصيانة، ونشأت شركات مثل “الليمون تور”، التي تؤجر الدراجات الهوائية وتنظم جولات. لاقت المشاريع المعنية بالدراجات الهوائية نجاحا كبيرا خلال فترة الحجر الصحي بشكل خاص، وقد قيدت إجراءات الحجر الصحي الخاصة بجائحة كوفيد 19 من استخدام السيارات.
واجهت شركة “الليمون تور” مؤخرًا تحديات بمقرها الرئيسي في حي سكني راق بقرطاج، إذ تقدم السكان المجاورون بشكاوى ضد موقف الدراجات والضوضاء التي يُحدثها الحرفاء. وقد خضعت “الليمون تور” كذلك إلى رقابة مشددة من المسؤولين والشرطة، بما في ذلك الشرطة البيئية. وقد احتدت وتيرة هذا التضييق إلى درجة تدخل والي تونس، والذي أمر الشركة بإغلاق مقرها في 27 ماي 2021.
يتساءل ماركوس بريتويغ، أحد مؤسسي “الليمون تور”: “هل يولي الوالي شخصياً هذا القدر من الاهتمام إلى جميع الخلافات بين سكان الأحياء في تونس؟”. ويظن ماركوس أن بعضا من السكان المجاورين لهم قدر من النفوذ السياسي. “إنه لمن غير المعقول أن تقوم الشرطة البيئية بفتح تحقيق ضد جهات فاعلة في المحافظة على البيئة”.
تقع “الليمون تور” في حي سكني، وقالت جمعية “فيلوريسيون” غير الربحية لمشكال أنها لا تدعم قضية “الليمون تور” لأنهم يشعرون بأن الشركة تنتهك قوانين تقسيم المناطق، وأنهم استفادوا ماديا من جهودهم التطوعية والمجانية. * (انظر التحيين أدناه)
ولكن بريتويغ، أحد مؤسسي “الليمون تور”، يشير إلى العديد من الشركات الأخرى العاملة في المنطقة من دون عقود إيجار تجارية، ويزعم أن الحجج القانونية ضدهم ما هي إلا “ذريعة” في غياب سبل حقيقية للطعن في القرار من خلال القضاء.
قال بريتويغ لمشكال “نرى اليوم انخفاضا شديدا بمعدل الإقبال علينا، وقد أثر هذا الأمر أيضًا على المزاج داخليا. الناس مكتئبون وغاضبون، ويعيشون في خوف من فقدان وظائفهم. نحن في خضم أزمة اقتصادية… زد على ذلك الآن أزمة صحية… ومن ثم يتم تكبيل طرف فاعل بيئيًا واجتماعيًا يوظف خمسة شبان تونسيين. فليقم أحدهم رجاءً بتفسير ذلك على الملأ”.
إن الاستجابة القوية من الحكومة لشكاوى قاطني هذا الحي بشأن تأجير الدراجات الهوائية والجولات بالدراجات في منطقة راقية ومعزولة للغاية بتونس الكبرى تثير تساؤلات حول الحق في استخدام الأماكن العامة.
تقول لانا سلمان، وهي باحثة في الإدارة الحضرية والتنمية الدولية قامت بعمل ميداني في الحي المذكور، “أعتقد أن المسألة بقرطاج مسألة طبقية. إنه حي راق وأنيق والمساكن فيه باهظة الثمن. يعد الميناء البونيقي بقرطاج واحدا من أغلى المناطق العقارية، وقاطنوه لا يرغبون بمرور راكبي الدراجات الهوائية… هذه مشكلة طبقية بالأساس، وسيلجؤون إلى أي ذريعة لإقناعك بغير ذلك. لا يروق للمتساكنين رؤية المتسكعين بحيهم، أعتقد أن مجرد تواجد متجولين على الشاطئ فقط قد أثقل كاهلهم…”.
أحد القوانين التي استند إليها الوالي في مرسومه المتعلق بإيقاف أنشطة “الليمون تور” مأخوذة من القانون الاستعماري الفرنسي للنقل من عام 1889.
وقال سلمان لمشكال “يمكنهم استنباط قوانين عتيقة لا علاقة لها بالموضوع. وسيتذرعون بأي تعلة لتبرير قرارهم وصرف النظر عن كونها مشكلة طبقية”.
بالنسبة للخلافات بين شركة “الليمون تور” الربحية وجمعية “فيلوريسيون” غير الربحية، يعتقد سلمان أن مآخذ “فيلوريسيون” من الأطراف الخاصة التي تستنفع من عملهم هي مآخذ مشروعة، ولكن “يمكن أن نعتبر هذا الأمر مسألة طبقية. بالإمكان القول بأن هذه البلدية تحتقر الفقراء ومن مصلحتها الإبقاء عليهم في بيرصة، قابعين وراء شارع محمد علي… أولئك الذين يعيشون في تلك المنطقة [قرطاج] يريدونها فضاءً خاصًا بهم، لا يقض مضجعهم فيه أحد”.
محاربة ثقافة السيارات
للدراجات الهوائية تاريخ عريق في تونس. لكن فترة حكم بن علي شهدت تصاعدا كبيرا في نسبة استيراد السيارات. قال حمزة عبد الرحيم من “فيلوريسيون” إن ترويج بن علي لاستيراد السيارات وتحفيزه على ذلك لم يكن عفويا، إذ أن عائلته قد استفادت من هذه التعاملات ماديا وحققت أرباحا شخصية.
كان صهر بن علي صخر الماطري يمتلك حصة مسيطرة في شركة “النقل”، المستورد الحصري لسيارات فولكسفاجن وأودي وبورش وسكودا في تونس. وبعد ثورة 2011 وضعت الدولة يدها على هذه الشركة.
قال عبد الرحيم لمشكال “في الثمانينيات من القرن الماضي، كانت صفاقس تحتل المرتبة الثانية أو الثالثة عالميا في نسبة استخدام الدراجات الهوائية. وبعد ذلك… جاء بن علي.”
وأوضح عبد الرحيم أن حكومة بن علي قدمت قروضا للمواطنين الراغبين بشراء سيارة، ورفعت من الحصة السنوية لواردات السيارات. وبالتوازي مع كل هذا، شنت الدولة هجوما ثقافيا لترغيب العامة باقتناء سيارة.
وقال عبد الرحيم “تجندت وسائل الإعلام لحياكة قصص مليئة بالإغراء والإثارة، تتمحور حول من يقتنون سيارة ومنزلا، موهمين المشاهدين بأن هذا هو نموذج الرفاه والحياة الرغيدة بتونس. تمت أدلجة الناس، أصبح عدم امتلاك سيارة مقترنا بالفقر، فالسيارة تحولت لمقياس للحياة الناجحة بالأساس”
“ليس للتونسيين أي احترام فعلي للدراجات الهوائية، لأنها وسيلة نقل الفقراء”. قال بن حاج يحيى من “بيدالو”. “فبالأساس، يفترض لشخص ما أن يقتني دراجة هوائية مبدئيا، ثم يرتقي تدرجيا إلى دراجة نارية، ومن ثم يرتقي إلى سيارة، إلى أن يقدر أخيرا على شراء سيارة مرسيدس”. وأضاف قائلا “عندما أشرح لمن حولي بأنه لا رغبة لي باقتناء سيارة أساسا، وبأنني أود أن أركب دراجتي الهوائية كل يوم، فإنهم لا يقدرون على استيعاب ذلك، ويتهمونني بأنني ‘غريب الأطوار’.”
كانت الإحصاءات الرسمية للسيارات متاحة للعموم، وتم نشرها لآخر مرة في عام 2015، أعلنت حينها الوكالة الفنية للنقل البري التابعة للدولة في تقرير سنوي أنها قامت بإنجاز فحوصات فنية على أكثر من 1.7 مليون سيارة. منذ ذلك الحين ، تم تسجيل أكثر من 90 ألف سيارة في سنتي 2015 و2016 حسب الاحصاءات الرسمية.
حسب تقدير عبد الرحيم، فإنه تم استيراد ما لا يقل عن 100 ألف سيارة سنويًا منذ ذلك الحين. وبذلك، سيبلغ العدد الإجمالي للسيارات حوالي 2.3 مليون في عام 2020. إذا ما قمنا بالنظر إلى دول أخرى ذات نسب مشابهة من الناتج المحلي الإجمالي للفرد، فإننا سنجد أن هذا الرقم يعتبر مرتفعا نسبيًا مقارنة بعدد السكان. في تقرير صدر مؤخرا لـ”بزنس إنسايدر” تم تقدير عدد السيارات المستوردة سنويا بـ 400 ألف، إلا أنه لم يتم توفير مصدر واضح لهذا الرقم.
هذا السيل الجارف من السيارات الذي تدفق في التسعينيات، جعل فضاءات المدينة محفوفة بالمخاطر.
سهام لمين هي باحثة في الفن والعمارة وتقوم بنشر تدوينات عن المدينة، إضافة إلى مواضيع أخرى. تقول سهام لمشكال “أول الدروس التي نلقنها للأطفال هي الخوف من السيارات، بعد ذلك، يمنع الأولياء صغارهم من الخروج إلى الشارع”.
“الحق في المدينة”
تزامن الارتفاع الضخم في مبيعات السيارات مع نتيجة عقود من الانعدام شبه الكلي للاستثمار في بنية تحتية جديدة للنقل العام.
قالت لمين لمشكال: “يُطبِقُ هذا الأمر على أنفاس المدينة”.
وتضيف لمين: إن شبكة النقل العام هزيلة وضعيفة، ينخرها العجز. وهناك من يعمد إلى تعطيل أي إمكانية لإضافة وسيلة نقل عام مستقبلية. لا أدري أي الأطراف تقف وراء هذا التعطيل، ما إذا كان لوبي شركات السيارات، أو العائلات المستوردة للسيارات أو إذا كانت الدولة، ولكن هذا العمل إجرامي.” وأضافت “هذه واحدة من الجرائم الحقيقية التي اقترفها بن علي. لقد غير عادات الناس، وغير طبيعة العلاقة بين الشعب والشارع، والحق في المدينة. أضحت علاقتنا بالمدينة علاقة عداوة بسبب السيارات، واتسمت بالعدوانية والتلوث والحوادث”.
تقول ستيفاني بوسيل (وهي إحدى مؤسسي “فيلوريسيون”): في دوار هيشر، وهو حي في تونس قاطنوه من الطبقة العاملة، تقارب نسبة ملكية السيارات نصف المعدل الوطني. ومع ذلك فإن هذا الحي من أكثر المناطق حرمانا من وسائل النقل العام في العاصمة.” وتضيف أن هذا الغياب لوسائل النقل الخاصة والعامة يجعل التنقل أمرا شاقا على السكان، فيتعسر عليهم الوصول إلى مقر شغلهم أو الحفاظ على وظائفهم، مما يزيد من عوامل الفقر ويمثل سلبا لحقهم الدستوري في حرية السفر، على حد تعبيرها.
تضمن المادة 24 من دستور 2014 الحق في “حرية التنقل داخل البلاد” لجميع المواطنين.
في دراسة حديثة النشر لإنترناشونال آلرت بعنوان ‘التنقل الحضري في دوار هيشر: عقبات أمام تنقل الشباب في مدينة من تونس الكبرى’ كتبت بوسيل ما يلي: “هذه العزلة التي تذكرنا بمثيلتها في المناطق الريفية هي مظهر من مظاهر التهميش في قلب تونس الكبرى… إن الشلل الذي يقيد حركتهم هو شكل من أشكال العنف المؤسسي القائم على التمييز”
تفسر الباحثة الحضرية لانا سلمان ذلك بأنه “شكل حضري يتغذى على المضاربة العقارية والإيجارات ليستمر في التوسع”
وبحسب سلمان، فإن “ثقافة السيارات الخاصة تتوافق مع التطور العقاري… لا تصلح الشقق الصغيرة والمدن التي يتيسر المشي فيها للتطوير العقاري، في تونس العاصمة خصوصا، لأن مطوري العقارات يعتمدون أساسا على التوسع اللامحدود للمجال الحضري. يكاد المرء يحس بتمدد محيط المدن في جميع الإتجاهات”.
قال سلمان: “كل هذه العوامل تساهم في جعل التنقل متعبًا وبطيئًا ومهينًا بالنسبة للطبقة الفقيرة”.
يرى سلمان أن السبيل لتصور جديد للفضاءات العامة بالمدينة وإعادة إحيائها ينبني أساسا على مجموعات مثل سائقي الدراجات الهوائية ومناصري وسائل النقل البديلة، مثل مجموعة وينو التروتوار؟ [أين الرصيف؟] التي تندد باختفاء الأرصفة، أو مثل مجموعة ناشئة ينظمها سلمان بمعية آخرين لحشد القوى من أجل “الحق في المدينة”. يؤكد سلمان أنه “لا يمكن حل مشكلة السياسة والاقتصاد في الشكل الحضري للمدينة بمجرد اعتماد وسائل نقل صديقة للبيئة مثل ركوب الدراجات الهوائية”.
تقول بوسيل من جمعية “فيلوريسيون” أنه بالرغم من ذلك، فإن المجموعات المحلية لركوب الدراجات الهوائية تنظم صفوفها، ويشجع أعضاؤها بعضهم البعض على ركوب الدراجات الهوائية كشكل من أشكال التحرير للتأقلم مع غياب وسائل النقل العام ومقاومة العزلة المفروضة على الأحياء الفقيرة.
كتبت بوسيل: “التجول بالدراجة الهوائية بالنسبة لهم يحررهم من عجز وقصور الخدمات العامة، ويكسر قيود النقل ويخلصهم من أعبائه (الساعات والتكاليف والأمن)، مما يمنحهم قدرا كبيرا من التحكم في تنقلهم وحياتهم”.
وفي الوقت نفسه، لدى بعض سائقي الدراجات الهوائية تخيل واضح لشكل المدينة بعد إعادة تصورها.
يقول بن حاج يحيى لمشكال “في المدينة المثالية، كما أتصورها، ستتقاسم الدراجات الهوائية والسيارات الشارع تناصفا. ستقتصر الشوارع بوسط المدينة على الدراجات الهوائية ووسائل النقل النظيفة فقط – أعني بذلك وسائل النقل التي تعمل بالطاقة الكهربائية، أو الشبيهة بالدراجات الهوائية. بالإضافة إلى ذلك ستتوفر خدمات لتأجير دراجات هوائية للربط مع جميع المحطات الرئيسية للنقل العمومي ومع مواقف السيارات الرئيسية وسط المدينة أو في المناطق المزدحمة. ولا أريد ذلك لأجلي شخصيا، بل من أجل أبي وغيره من الذين يعتمدون على المترو الخفيف للوصول إلى وسط المدينة”
هل يكون ركوب الدراجات الهوائية جزءًا من الحل؟
تشكلت العديد من مجموعات ونوادي ركوب الدراجات الهوائية في تونس في السنوات الأخيرة، وغالبًا ما يقومون باستخدام موقع “فايسبوك” للتواصل مع بعضهم البعض. بعض هذه المجموعات والنوادي صغيرة، أو تقتصر في نشاطها على حي معين، مثل “مونستر د. هـ.” من دوار هيشر. أما البعض الآخر، مثل “بسكل”، والتي تضم عشرات الآلاف في شبكتها على “فايسبوك”، فإنهم يحاولون العمل على مستوى الجمهورية بأكملها.
وقال نضال عزيزي، أحد مؤسسي “بسكل”، لمشكال أن مجموعتهم تساعد راكبي الدراجات الهوائية في التواصل مع بعضهم البعض وتبادل الخبرات، بالإضافة إلى تشجيع غيرهم على ركوب الدراجات الهوائية. كما أنها تساعد في ربط الأشخاص بمتاجر الدراجات الهوائية والمحلات المتخصصة بصيانة الدراجات وإصلاحها وقطع الغيار.
قال عزيزي إن استجابتهم لحوادث السيارات أتت على شكل جهود لتوعية السائقين. وفي عام 2018، قاموا بتوزيع ملصقات عليها عبارة “دعني أركب الدراجة الهوائية، فالطريق ملك للجميع”.
وأضاف عزيزي: “ستواصل ‘بسكل’ العمل على حل مشاكل راكبي الدراجات الهوائية إلى أن تأخذها السلطات على محمل الجد وتبدأ بالعمل على إيجاد حلول فعلية لها”.
سألت مشكال الناشطين في مجال ركوب الدراجات الهوائية عما إذا كانت جهود توعية سائقي السيارات كافية، وما إذا كان راكبو الدراجات معرضين لخطر السائقين، خصوصا وأنه نادرا ما يتم تطبيق قوانين المرور.
أجاب حمداني مشكال قائلا “هنالك قدر من الأنانية، فالبعض يفترض أن حجمه الكبير يمنحه ملكية الشارع. يوجد كذلك سائقو سيارات يجهلون كيفية التصرف عند رؤية دراجة، لأنهم لم يتعلموا ركوبها، وإذا غاب الفهم، غاب التعاطف”.
أول ممر مخصص للدراجات الهوائية في تونس
بالإمكان أن نحاول نشر ثقافة التعاطف، وبالإمكان كذلك تغيير البنية التحتية للمدينة. تم بناء أول ممر للدراجات الهوائية في تونس في “درة البحيرة” – المعروفة باسم “اللاك زيرو” – الواقعة بين حي البحيرة 1 ووسط مدينة تونس.
قال حمداني لمشكال “إذا ذهبت إلى درة البحيرة، فسترى أمام عينيك تمدنًا دون سيارات. سترى الحياة. ستجد اطفالا وألواح تزلج ودراجات هوائية. يمكن لك رؤية كل شيء عدى السيارات، وهذا أمر رائع ومنطقي. بمقدورنا التنفس ورؤية بعضنا البعض، يمكننا المشي على الأقدام والاستمتاع بوقتنا”.
يحتوي المتنزه في درة البحيرة على مساحة شاسعة للمشاة وممر للدراجات الهوائية من تصميم المهندس المعماري والمصمم العمراني خالد شيخ روحو. وقام بتصميمها إثر فوزه هو وشركته في يونيو 2017 بالمزايدة على هذا المشروع، والتي طرحتها “شركة البحيرة للتطوير والاستثمار“، وهي شركة الشراكة للقطاعين العام والخاص بين الدولة التونسية والمستثمرين السعوديين، والتي قامت بأشغال بناء وتطوير منطقة البحيرة منذ عام 1983.
أخبر شيخ روحو مشكال بأن فكرة المشروع تتلخص في جعل “المترجلين ملوك الطريق عندما يتعلق الأمر بالمشي على الرصيف… لقد سئمنا من السيارات”.
يقول شيخ روحو أن ميزانية البلديات المخصصة للأرصفة عادة ما تكون هزيلة، لذلك لا يقومون باستشارة المهندسين المعماريين، بل تقوم شركات البناء باختيارهم عشوائياً. وعلى عكس درة البحيرة، فإن العديد من الأرصفة في تونس بها عقبات أمام المشاة، مثل الأشجار وأعمدة الإنارة، مما يجبر الناس على السير وسط الطريق.
وقال شيخ روحو لمشكال “أهم ما في الأمر هو تأمين السبيل للمشاة”.
انتهت الأشغال بمنتزه درة البحيرة في ديسمبر 2019، وسرعان ما أصبح أحد أكثر المناطق شعبية في المدينة، وأكتظ بالباحثين عن الفضاءات العامة.
وقال شيخ روحو لمشكال “لا توجد مطاعم ولا مقاهي، ولا يوجد أي شيء، ومع ذلك فإن المكان مزدحم ليلا نهارا، هناك من يهرول، وهناك من يركب الدراجات الهوائية. إن هذا لمصدر فخر. لقد قلت للمتساكنين بالبحيرة: ‘أترون؟ هناك حاجة إلى توفير مساحة عامة عالية الجودة… حيث يتسنى لهم الجلوس ومشاهدة البحيرة من دون أي إزعاج’.”.
وأوضح شيخ روحو لمشكال أن البلدية ستتمتع بقدر أكبر من السيطرة والمسؤولية على منطقة درة البحيرة بعد أن تديرها شركة البحيرة للإستثمار على مدى السنوات العشر الأولى.
قامت جمعية “فيلوريسيون” في الآونة الأخيرة بنشر صور لسيارات مركونة في ممر الدراجات في درة البحيرة على تويتر، وكتبت “هذا ممر الدراجات الهوائية الوحيد من نوعه في تونس الكبرى… وللأسف فإنه غير محترم، وغير محمي.” قام وزير النقل معز شقشوق بمشاركة تغريدة “فيلوريسيون”، وأضاف في تغريدته: “يا للأسف! حتى الإنجازات يتم إهمالها في تونس. سأحرص على تسوية هذه المشكلة في أقرب الآجال”.
وبالرغم من كل ذلك، فإن لمين ترى في درة البحيرة مثالا يحتذى به، وتتوقع أن المستقبل محمل بالمزيد من التطورات المشابهة.
قالت لمين: “هذه أول مرة نرى فيها ذلك… فقد تم تخصيص فضاء عام قبل بدء المشروع حتى، وهناك ممرات للدراجات الهوائية ومساحة للجلوس ومسارح عامة. إن التصميم رائع، وقد تكيف قاطنو المدينة على الفور مع الفضاء الجديد كجزء من حياتهم الحضرية اليومية، لقد نال هذا الأمر إعجابي”
ساهمت لينا عزيز في كتابة هذا المقال.
*تحيين: طلبت مشكال من شركة “الليمون تور” ردًا على اتهام “فيلوريسيون” بأن الشركة المذكورة قد استنفعت ماديا من جهودهم المجانية. وبعد أن تم نشر هذا المقال، أرسلت “شركة الليمون” تور الرد التالي:
“تعتبر شركة ‘الليمون تور’ أن عبارات القذف الواردة في هذه التصريحات التشهيرية عارية من الصحة، وأنها صادرة عن فرد أو مجموعة أفراد يرغبون بإلحاق الضرر بمن يعتبرونه منافسا لهم أكثر من رغبتهم ببناء نظام إيكولوجي للدراجات الهوائية. ونحن على قناعة بأن هذه التصريحات لا تمثل مجتمع الدراجات الهوائية، وسنواصل العمل بعقلية بناءة على أساس الشفافية “.