“الحلم الأوروبي”: خط البلقان طوق نجاة شباب تطاوين من براثن البطالة

تصوير : شهد لينا بلحاج

في العاشر من جوان 2022  ، غادر عمر ش. مدينة تطاوين الواقعة في أقصى الجنوب التونسي في رحلة إلى إسطنبول التركية أولى محطات رحلته إلى العاصمة الفرنسية باريس.

و لبلوغ وجهته المنشودة ،  تعيّن على عمر ربط الصلة مع أبناء منطقته الذين سبقوه للقارة العجوز عبر طريق شهد تدفقا غير مسبوق و أصبح يأخذ صدى إعلاميا واسعا: طريق البلقان.

و يقول عمر في حديثه لمشكال: ” في البداية  ، قام والدي بإمضاء تصريح أبوي مكنني من السفر. ثم حجزت تذكرة سفر إلى إسطنبول التركية قبل الذهاب إلى صربيا المحطة الأهم في هذه المسيرة.

و يمنع أعوان شرطة الحدود في المطارات التونسية في عدّة مناسبات من هم دون سن الخامسة و الثلاثين من السفر إلى تركيا والمغرب والجزائر وليبيا في حال عدم حملهم تصريحا أبويا. 

” لم يكن الوصول إلى صربيا سهلا، فرغم أنّها لا تشترط فيزا على التونسيين، تبدي السلطات الصربية صرامة كبيرة في التّعامل معنا. كما اضطررت لدفع رشوة لأحد موظفي الديوانة في مطار اسطنبول كي يسمحوا لي بالمرور.”

قضى عمر ليلة واحدة في إحدى فنادق العاصمة بلغراد قبل أن يستقلّ الحافلة نحو الحدود الصربية المجرية صحبة أربعة من أبناء منطقته تجمعهم الرغبة في ” تحسين ظروفهم المادية والعثور على عمل بأجر لائق”.

حطّ الشاب ، البالغ من العمر 23 عاما،  الرحال في مدينة سوبوتيتسا  ليفاجئ بالأسعار التي يفرضها المهرّبون لإيصاله إلى الحدود المجرية النمساوية حيث ارتفعت تكلفة العمليّة من 3000 يورو قبل أسبوعين إلى 3800 يورو ، لكنه وافق على مضض لأن الأوان كان قد فات على التراجع ولا يرغب عمر في العودة خالي الوفاض بعد أن تجشّم كل هذه المعاناة.

تبدو رحلة عمر واحدة من آلاف القصص التي توثّق مسيرة شباب من تطاوين واجهوا الموت و الاعتقال لملاحقة حلمهم في أوروبا بعد أن فقدوا الأمل في بناء مستقبل أفضل في بلدهم الذي يكافح للنجاة من أزمة اقتصادية حادّة.

البحث عن فرص عمل أفضل

يعتبر الصحفي و الباحث الأنثروبولوجي محمد بالطيب (و هو أصيل ولاية تطاوين) أنّ العديد من الأسباب قد تجمّعت لجعل فكرة الهجرة تتصدر سلّم أوليات فئة واسعة من شباب ولاية تطاوين.

وأوضح بالطيب أنّ  وضع ولاية تطاوين كمنطقة حدوديّة صحراوية  بعيدة عن المركز و خارج الخيارات التنموية للدّولة لعقود طويلة، رغم ثرائها بالثروات الباطنيّة والإمكانيات الاستثمارية الهائلة ، عمّقت الشرخ الاجتماعي بين الحكومات المتعاقبة والشباب المحلّي. و يضيف ذات المصدر :’ تاريخيًا، منذ العهد الحسيني كانت الدّولة لا تحضر كثيرًا في تطاوين إلاّ عبر ممثليها الرّسميين من قيّاد و خلفاوات وشيوخ، و بعض حملات  المحلّة  لجمع المَجبى والضّرائب. و طيلة عهد الاستعمار  (1956-1881) ، تم تحديدها كمنطقة عسكريّة غير خاضعة للإقامة العامة المدنية الفرنسيّة. لذلك لطالما كانت المنطقة، نتيجة لكلّ هذا، منطقة هجرات نحو الشمال الخصيب، و صوب العاصمة وليبيا وخاصة في اتّجاه أوروبا منذ ستينات القرن الماضي لأسباب  اقتصاديّة بحتة.”

و شدّد الباحث الأنتروبولوجي محمد بالطيب على أنّ الوضع الاقتصادي الهّش، الذي ازداد صعوبة في السنوات الأخيرة بسبب الأوضاع في الجارة ليبيا، والتضييق الشديد على حركة التجارة البينية (غير النظاميّة) إضافة لأزمة الأعلاف وتواصل الجفاف، زاد من نسق حركة الهجرة والاغتراب و رحلات البحث عن العمل في مناطق أخرى خاصة في أوروبا خصوصا فرنسا. هذه الصعوبات ولدت أيضًا حركات احتجاجيّة استهدفت الشركات النفطيّة الناشطة في الصحراء التابعة لولاية تطاوين.

الصدام مع الدولة

شهدت السنوات الست الأخيرة صدامات عديدة بين شباب ولاية تطاوين وقوات الأمن التونسية عُرفت باعتصام الكامور و الذي عرف زخما إعلاميا واسعا بسبب حصوله على تعاطف محليّ منقطع النظير، وهو ما أسهم في حصول الولاية على اتفاق وُصف بالتاريخي لخفض معدلات البطالة و خلق مواطن شغل مستدامة.

و اندلعت أزمة الكامور في أفريل 2017 ، حيث نظّم عدد من شباب تطاوين  اعتصاما  استمر لأكثر من شهرين و شهد مواجهات مع الشرطة أسفرت عن مقتل متظاهر،  لتبرم حينها حكومة يوسف الشاهد (أوت 2016- فيفري 2020) بوساطة من الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبّوبي ، اتفاقا مع تنسيقية اعتصام الكامور في 16 جوان 2017  لحل الأزمة  مقابل الاستجابة لمطالب الاحتجاجات المتعلقة بتوفير فرص عمل و تنمية بالجهة.

إلا أنّ تطبيق مختلف بنود الاتفاق أحدث شرخا واضحا بين السلط المركزية و الجهوية والمعتصمين خصوصا في النقاط ذات الصلة بالتشغيل في شركة البيئة. و أشارت منصة “بنود” التي  ترصد الحركات الاجتماعية  في تونس إلى أنّ 50 % فقط  من  اتفاق الكامور قد نٌفّذ على أرض الواقع لافتة إلى أن 21 % من الإجراءات المنصوصة في الاتفاق مازالت في طور الإنجاز.

وأبرز الخبير في سياسات التنمية البشير الشيباني (لا يمتّ بصلة قرابة لكاتب المقال) أن موجة الهجرة عبر صربيا ذات صلة وثيقة بفشل تطبيق بنود عديدة من اتفاق الكامور خصوصا تلك المتعلقة  بإحداث صندوق التنمية و الاستثمار و دراسة احداث 5 شركات شبه عمومية في انشطة ذات علاقة بقطاع البترول و الغاز ، معتبرا أن هذه البنود  لو تم تنفيذها لساهمت في التقليص من نسبة البطالة المرتفعة بالجهة و هي الأعلى وطنيا رغم ما تزخر به ولاية تطاوين من موارد طبيعية و ميزات تفاضلية في عدة قطاعات . 

و أضاف الشيباني في تصريح لمشكال أن يأس شباب تطاوين من جدية الحكومات المتعاقبة  و غياب افاق للتنمية بالجهة أعاد قرار الهجرة إلى الواجهة خصوصا أن خط البلقان ذلّل مشكلة التأشيرة التي لطالما كانت عقبة أمام الراغبين في مغادرة تونس رغم تكلفتها المرتفعة مما يؤكد  أن اسباب هذه الموجة من الهجرة ليس الفقر بل هجرة إيجابية تهدف الى المساهمة في تنمية الجهة من خلال التحويلات التي ستتم لاحقا  على المدى المتوسط كما فعلت الأجيال السابقة من المهاجرين . 

و نوّه ذات المصدر أنه لا يستبعد فرضية تساهل مختلف الأطراف التي ناهضت اعتصام الكامور و شبابه الذين أغلقوا الفانة وهو أمر  لا تريد عديد الاطراف ان يحدث مجددا خصوصا الشركات البترولية في ظل الأزمة العالمية في مجال الطاقة بعد الحرب الروسية الأكرانية. 

و أردف الخبير في سياسات التنمية قائلا أن ” تسهيل ”  موجة الهجرة الحالية هي إحدى الوسائل التي من شانها إفراغ المنطقة من شبابها و بالتالي تقليل احتمالية بروز حركات احتجاجية جديدة.”

وأبرز الشيباني أن عديد الاطراف مستفيدة من هذه الموجة أهمها الدول الأوروبية خصوصا فرنسا التي ستحظى بقوة انتاج و عمل فتيّة ستساهم في تلبية  طلبات سوق الشغل والتي ستتطور على الرغم من الأزمة الحالية .

وكشف المسح الوطني حول الهجرة الذي أنجزه المعهد الوطني للإحصاء (حكومي) أن 39000 مهندس و3300 طبيب تونسي غادروا البلاد خلال الفترة من 2015 إلى غاية 2020.

تضارب الأرقام 

بدا تحديد أعداد المهاجرين عبر خط البلقان من أبناء تطاوين أمرا في غاية الصعوبة خصوصا مع غياب مسح ميداني دقيق و موثوق.

و في 20 أوت الماضي ،  أفاد أستاذ علم الاجتماع  الدكتور محمد نجيب بوطالب  في  دراسة نشرها خلال محاضرة نظمتها جمعية أحباء المكتبة أنّ عدد المهاجرين نحو صربيا منذ بداية العام يُقارب الـ12 ألف مهاجر.

و تبدو هذه الاحصائية بعيدة عن أرقام   منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي أكد أنّ 3635 مهاجراً تونسياً وصلوا إلى أوروبا عبر دول البلقان في الفترة الممتدة مابين 26 جويلية 2021 والثامن من جويلية 2022 . 

وأبرز مصدر مطلع من بلدية تطاوين في تصريح لمشكال أن عدد التصاريح الأبوية الممضاة ببلدية تطاوين خلال التسع أشهر الأولى يتجاوز الخمسة آلاف تصريح.

و أضاف ذات المصدر ، الذي فضل حجب هويته لأنه غير مخوّل له التصريح للإعلام ، أن أكثر من 60 % من التصاريح وقع إمضائها في الفترة بين جانفي و جوان 2022 مقابل تسجيل انخفاض ملحوظ في عدد التصاريح منذ بداية شهر أوت 2022.

و يلجأ شباب تطاوين إلى حمل تصاريح أبوية للاستظهار بها في المطارات التونسية وهو إجراء يٌطبّق منذ هجوم سوسة الإرهابي الذي  استهدف فندق إمبريال مرحبا في المنطقة السياحية المشهورة مرسى القنطاوي في مدينة سوسة الساحلية يوم 26 جوان 2015 رغم أن القانون التونسي لا يشترط حصول التونسيين البالغين على إذن آبائهم قبل السفر إلى الخارج.

وتعرّض  هذا الإجراء لانتقادات لاذعة من عدّة منظمات حقوقية أبرزها  ” هيومان رايتس واتش” التي وصفته بأنه”  إجراء فضفاض لا مبرر له “.

و لفتت وكالة حماية الحدود الأوروبية “فرونتكس”  في تقرير  نشرته في شهر جويلية الماضي  أن طريق غرب البلقان استحوذ على الزيادة الأكبر في نسب المهاجرين العابرين في 2021. 

و حسب التقرير، عبر أكثر من 55 ألفا تلك الطريق خلال الأشهر الست الأولى من هذه السنة، أي ما يعادل زيادة بنسبة ثلاثة أضعاف مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

وقدّرت الوكالة في منتصف أوت الجاري أن “هذا هو حاليا أكثر طرق الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي نشاطا”.

من جهتها، اعتبرت  المبادرة العالمية، وهي منظمة دولية غير حكومية مقرها الرئيسي في سويسرا، في تقرير نشرته في ماي 2021 أن التقدير الدقيق لحجم وقيمة سوق تهريب المهاجرين في غرب البلقان أمر صعب للغاية لأن هناك العديد من الطرق المختلفة وينتهي الأمر ببعض المهاجرين إلى محاولة عبور بعض الحدود عدة مرات.

و رجّح التقرير أن تجارة التهريب بين صربيا والمجر أو رومانيا، تدرّ مابين 8,5 مليون يورو و10 ملايين يورو.

تضامن مجتمعيّ لتمويل عمليات الهجرة

كشف عدة مهاجرين لموقع “مشكال” أن عملية الهجرة الواحدة تكلّف مبلغا يتراوح بين 4000 و 7500 يورو يتقاضها مهربون أشهرهم المغربي الكازاوي الذي يدير صفحة نشطة على موقع فايسبوك يقدم فيها أبرز الإحصائيات حول عمليات الهجرة التي ينظمها.

و يصطدم المهاجرون بالقيود المالية التي تفرضها تونس لإخراج الأموال بالعملة الصعبة خارج التراب التونسي.

و لا يمنح القانون التونسي للمسافر الحق في حمل أكثر من 6000 دينار تونسي سنويا (حوالي 1800 يورو) و هو ما يدفع المهاجرين إلى البحث عن طرق بديلة لخلاص المهربين.

و يلتجأ المهاجرون غالبا إلى أقاربهم المقيمين في أوروبا للحصول على اليوروهات المطلوبة نظير دفع مقابلها بالعملة التونسية.

و أوضح عمر أنه تلقى حوالة بقيمة 2000 يورو عبر موقع “ويسترن يونيون” من صهره المقيم في باريس و حوالة أخرى من ابن عمه بقيمة 1000 يورو قام بسحبهما في مدينة سوبوتيتسا وتسليم الأموال للكازاوي لتمويل عملية “التسليمة” و هي عبارة أطلقها المهرّبون على عمليّة نقل المهاجرين من صربيا إلى النمسا مرورا بالمجر.

و في أفريل 2022، راسلت الخطوط الجوية التركية وكالات الأسفار التونسية معلنة أنها لن تبيع مستقبلا تذاكر سفر التونسيين نحو صربيا مرورا بتركيا من دون وجود رخصة سفر رسمية تصدرها السلطات التونسية دون تقديم تفاصيل إضافية عن الوثيقة المطلوبة.

وأشار  عدد من شباب تطاوين تحدثوا لمشكال  و اختاروا الهجرة عبر طريق البلقان إلى أن إقناع والديهم بالسفر كان أسهل مقارنة بمحاولاتهم السابقة للهجرة عبر البحر.

و قال سامي.ع :” عارض والدي مشاركتي في إحدى عمليات “الحرقة” قبل سنتين بسبب اعتقاده أنها خطيرة و غير آمنة.” مضيفا بسخرية :” السفر عبر صربيا رغم تكلفته المرتفعة كان سلسا و منظّما كأي حامل التأشيرة تخول له الذهاب إلى فضاء شنغن.”

و رغم الضمانات التي يغري بها المهربون الراغبين في الهجرة حول سلامة المسافرين، شهد غرب البلقان حوادث قاتلة أحدثها أسفر عن وفاة شابين  من تطاوين و إصابة آخر  بعد حادث انقلاب سيارة مهرب كانت تنقل 12 مهاجرا في سيارة صغيرة عبر الحدود المجرية النمساوية في بداية سبتمبر الجاري.

و أوضح سامي أن المهربين يغّيرون خط سير الرحلة والطريقة المتبعة لنقل المهاجرين بشكل مستمرّ  مشيرا إلى أنه نجح في  تخطي الحدود بين صربيا والمجر في المحاولة الثالثة بعد أن طُلب منه امتطاء زورق بلاستيكي لعبور النهر.

يعمل عمر حاليا بمخبزة على ملك أحد أصدقاء والده في ضاحية Saint Denis الباريسية. و رغم طول ساعات العمل و الأجر الضعيف نسبيا (1200 يورو(،  يعتبر الشاب العشريني أنه راض عن القرار الذي اتخذه مشيرا إلى عزمه الزواج من فتاة فرنسية تعرف عليها حديثا للحصول على وثائق إقامة قانونية. أما سامي الذي احتفل قبل أسابيع بعيد ميلاده الثلاثين فمازال يبحث عن عمل بعد شهر من استقراره بمدينة ليون.